[[right]right]في بيان ضرورة وجود النبي واحتياج الخلائق إليه
اعلم انّ غاية الله تعالى من خلق هذا العالم وغرضه لم يكن لتحصيل منفعة ، لكونه تعالى غنيّاً بالذات ولا يحتاج الى الغير في أيّ كمال ، بل انّ الغاية والغرض فوز الخلائق إلى الكمالات التي تكون في شأنهم ، والنشأة الأنسانية ـ كما مضى ـ لها اهليّة واستعداد للوصول إلى الكمال اكثر من سائر المخلوقات.
ويبتدأ الكمال من رتبة خاتم الأنبياء صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي هو أشرف الكائنات ، وينتهي إلى رتبة أبي جهل و... الذين هم أخس الموجودات ، ومن الواضح انّ كمال الانسان يوجد بتحصيل الكمالات ورفع النقائص ، وهذا لا يتم إلا بوجود معلم ربانّي مؤيّد من قبل الله تعالى ، يعلم القبيح والحسن من الأشياء بوحي الله تعالى ، ويرشد الناس إلى الخيرات بالوعد والوعيد ، لأنّ نفوس البشر
باعتبار دواعي الشهوات واللذات ترغب إلى القبائح وتراها حسنة ، وهذا ـ أي رؤية القبيح والشهوات من الأمور الحسنة ـ مذهب اكثر الناس.
وليعلم أيضا أنّ هذه الأمور لا تتم من دون الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب ، ومن الواضح انّ عقل الانسان ـ بدون وحي الله ـ لا يحيط بخصوصيات ثواب كلّ عمل وعقاب كلّ جرم ، فلا يمكن ارشاد الخلق وايصالهم نحو الكمال الا بوجود شخص مبعوث من قبل الله تعالى ، يعلم حسن الأشياء وقبحها.
ولا بد لهذا الشخص من جهتين ، الجهة البشرية كي يجالس الناس ويؤانسهم ويصاحبهم ، ويتكلّم معهم ويألفهم ويختلط معهم كي يؤثر كلامه في نفوسهم ، والجهة الثانية ، الجهة الروحانية والقدسية والكمال كي يستعد بها للفيوضات اللامتناهية ، والقرب من ساحة الله المقدسة ، فبالجهة الثانية يأخذ العلوم والحكم والمعارف ، وبالجهة الأولى يوصلها إلى الخلق.
روي انّ زنديقا أتى أبا عبدالله عليه السلام يسأله عن مسائل ثم أسلم بعد ما أجابه عليه السلام ، وممّا سأله انّه قال : فمن أين أثبت أنبياء ورسلاً ؟ قال أبو عبدالله عليه السلام : انّا لما أثبتنا انّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيماً لم يجز أن يشاهده خلقه ، ولا يلامسهم ولا يلامسوه ، ولا يباشرهم ولا يباشروه ، ولا يحاجّهم ولا يُحاجوه ، فثبت انّ له سفراء في خلقه وعباده يدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم.
فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، وثبت عند ذلك انّ له معبرين وهم الأنبياء وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدّبين بالحكمة مبعوثين بها غير مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب ، مؤيّدين
من عند الله الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد ، من إحياء الموتى ، وابراء الأكمه والأبرص ، فا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدلّ على صدق مقال الرسول ووجوب عدالته (1).
واعلم انّ الامام عليه السلام أشار في هذا الحديث إلى دليل آخر ، وهو انّ الانسان مدنيّ بالطبع محتاج إلى الغير في أمر معاشه ومعاده ولا بد من معاشرة بعضهم بعضاً ، وهذه المعاشرة تستلزم عادة حدوث المشاجرات والمنازعات مما يستلزم وجود حاكم عليهم لرفع النزاع والظلم ولولاه لقتل بعضهم البعض حتى يفنوا عن آخرهم.
ولو لم يكن هذا الحاكم مؤيداً من قبل الله تعالى لم يأمن الاجحاف والظلم في حكمه ، مضافاً إلى انّ الحكم موقوف على العلم بالخصوصيات والجزئيات ، ومن الواضح عدم إحاطة العقل البشري لجميع الخصوصيات ، إذن لا بد أن يكون الحاكم مؤيداً بالوحي.
( الفائدة الثانية )
في المعجزة
اعلم انّ المعجزة هي الدليل على العلم بنبوة نبيّ للناس كافة ، والمعجزة أمر خارق للعادة تظهر من مدّعي النبوة ، ويعجز الغير عن الاتيان بمثلها ، كصيرورة العصى ثعباناً ، واحياء الموتى ، وشق القمر.
ووجه دلالتها على النبوة ظاهر ، فانّ كلّ شخص متى ما ادعى النبوة والرسالة من قبل الله ، وقال : انّ الدليل على صدق دعواي ظهور أمر غريب على يدي بإذن الله ، ثم يحدث في الواقع ما ادعاه ، وكان ذلك العمل خارجاً عن طاقة البشر ، يحصل العلم انّ هذا الشخص نبيّ حقيقةً.
كما لو قال شخص لجمع : اني مأمور من قبل الملك أن آمركم بالعمل الفلاني ، والشاهد على صدق دعواي قيام الملك من مكانه ثلاث مرات مثلاً أو فتحه الشباك ثم اغلاقه ثلاث مرات ، والملك حاضر يسمع ، فاذا فعل الملك هذه الأمور يحصل القطع واليقين للحضور بصدق دعوى هذا الشخص ، سواء أكان الملك في حجاب أم لا.
فكذلك لو أظهر الله تعالى المعجزة على المدعي الكاذب كان مصدقاً له ، وتصديق الكاذب قبيح ولا يليق بالله تعالى ، فكيف يجوّز العقل ظهور هذا التصديق الذي يوجب ضلال الخلق من الله اللطيف الرحيم.
وكما انّ رؤية المعجزة توجب العلم بالنبوة ، فكذلك سماعها من طرق الأخبار المتواترة توجب العلم أيضاً ، كما حصل لنا علم بوجود مدينة مكة بسبب الأخبار المتواترة ، فلا يزداد علمنا لو رأيناها بعد ذلك.
( الفائدة الثالثة )
في تقرير الدليل على نبوّة نبيّ آخر الزمان محمد بن عبد الله
بن عبد المطلب صلى الله عليه وآله وسلّم
اعلم انّ معاجزه الظاهرة ، وآياته الباهرة اكثر من أن تعد وتحصى ومن
معاجزه القرآن المجيد ، لأنّه عُلم بالتواتر انّ القرآن جاء معجزة طبقاً لدعوى النبوّة ، وكلّف جميع الفصحاء والبلغاء من قبائل العرب ـ وهم أكثر من الحصى ـ أن يأتوا بسورة صغيرة من مثله تضاهيها بالفصاحة والبلاغة ، فلم يتمكنوا من ذلك مع كثرة جماعتهم وشدّة عداوتهم ، وعصبيتهم وكفرهم ، وأقروا بعجزهم ، ووطنوا أنفسهم على الحرب والقتل مع كون الفصاحة والبلاغة حرفتهم ، والخطب والأشعار صنعتهم.
وقد روى ابن بابويه عليه الرحمة انّ ابن السكيت ( من علماء العامة ) قال لأبي الحسن الرضا عليه السلام : لماذا بعث الله عزّ وجلّ موسى بن عمران بالعصا ويده البيضاء وآلة السحر ، وبعث عيسى بالطب ، وبعث محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم بالكلام والخطب ؟
فقال أبو الحسن عليه السلام : انّ الله تبارك وتعالى لما بعث موسى عليه السلام كان الأغلب على أهل عصره السحر ، فأتاهم من عند الله عزّ وجلّ بما لم يكن في وسع القوم مثله ، وبما أبطل به سحرهم ، وأثبت به الحجة عليهم.
وانّ الله تبارك وتعالى بعث عيسى عليه السلام في وقت الظهر فيه الزمانات ، واحتاج الناس الى الطب ، فاتاهم من عند الله عزّ وجلّ بما لم يكن عندهم مثله ، وبما أحيى لهم الموتى ، وأبرأ لهم الأكمه والأبرص باذن الله عزّ وجلّ ، وأثبت به الحجة عليهم.
وانّ الله تبارك وتعالى بعث محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم في وقت كان الأغلب على أهل عصره الخطب والكلام ، وأظنه قال : والشعر ، فأتاهم من كتاب الله عزّ وجلّ وموعظه وأحكامه ما أبطل به قولهم ، واثبت به الحجة عليهم.
-
فقال ابن السكيت : تالله ما رأيت مثلك اليوم قط ، فما الحجة على الخلق اليوم ؟ فقال عليه السلام : العقل ، يعرف به الصادق على الله فيصدقه ، والكاذب على الله فيكذبه ، فقال ابن السكيت : هذا هو والله الجواب (1).
ويوجد كثير من المعاجز وخوارق العادات سوى القرآن وقد وردت في كتب الخاصه والعامة وأكثرها متواترة ، وعلى تقدير عدم تواتر بعضها فتواتر البعض الآخر متفق عليه ومما لا شك فيه ، كشق القمر ، وحركة الشجرة من مكانها ومجيئها إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ورجوعها الى مكانها بأمره ، ونبوع الماء من بين أصابعه صلّى الله عليه وآله وسلمّ بحيث سقى جميع العسكر مع دوابّهم ، وتسبيح الحصا في يده ، وتكلّم الشاة المسمومة معه.
واشباع جمع كثير من الطعام القليل ، ومتابعة الجن ايّاه ، ورجوع الشمس لأمير المؤمنين عليه السلام ، وشهادة التمساح بنبوّته ، وشكاية الناقة على صاحبها ، والإخبار عن احوال الأنبياء وغيرهم طبقاً للواقع من دون خلل واختلاف ، مع كونه صلّى الله عليه وآله وسلّم أُميّاً لم يقرأ شيئاً ولم يتعلّم عند أحد.
ولم يُغلب في الحجة من قبل أحد ، ولم يعجز عن الاجابة على أي سؤال ، والتنبؤ بوقوع اموري المستقبل ووقوعها كذلك ، كفتح مكة ، وقتح خيبر ، وغلبة الروم ، وفتح خزائن فارس والروم بيد المسلمين ، وقتال أمير المؤمنين عليه السلام مع جيش عائشة وطلحة والزبير ، ومعاوية ، وخوارج النهروان.
ومظلوميّة أهل البيت ، واستشهاد فاطمة الزهراء والحسن والحسين عليهم السلام ، وافتراق الأُمة إلى ثلاث وسبعين فرقة ، وتسلّط الإسلام على البلاد ، وغلبة
دينه على أديان الأنبياء الماضين ، وظهور الصوفية في هذه الأُمة ـ كما سيجيء في حديث أبي ذر.
وامثال هذه المعاجز وهي اكثر من أن تُحصى ، مضافاً الى ملاحظة أوصافه وأطواره صلّى الله عليه وآله وسلّم من نسب وحسب وعلم وحلم وهمةٍ ومروةٍ وأمانةٍ وديانةٍ وعدالةٍ وشجاعةٍ وفتوّةٍ وزهدٍ وورعٍ وقناعة وعبادة وترك العلائق ، وصفاء الطينة، ومجاهدة النفس، وحسن السلوك، وكيفية المعاشرة مع الخلق ، وصدق الحديث ، وحسن الأعمال ، واستقرار حبّه في القلوب ، وسائر الصفات الحميدة ، والخصال الحسنة ، فيجزم كلّ عاقل مع ملاحظتها بحقيقة نبوّته صلى الله عليه وآله وسلّم.
وكذلك لو تأمل شخص في أحكام الدين ، وضوابط الشريعة المقدسة التي جاء بها ، لعلم انّ هذا النسق من القانون لا يأتي الاّ من قبل الله تعالى ، والأخبار ببعثته صلّى الله عليه وآله وسلّم في كتب الأنبياء الباقية لحد الآن كثيرة ، وذكر ذلك يوجب التطويل، ونكتفي في بيان معاجزه في هذا الباب بذكر حديث.
روى الحميري في قرب الاسناد بسند عال عن معمر ، عن الرضا ، عن أبيه موسى بن جعفر عليهما السلام ، قال :
كنت عند أبي عبدالله عليه السلام ذات يوم ـ وأنا طفل خماسي (1) ـ إذ دخل عليه نفر من اليهود ، فقالوا : أنت ابن محمد نبيّ هذه الأُمة ، والحجة على أهل الأرض ؟ قال لهم : نعم.
قالوا : إنا نجد في التوراة أن الله تبارك وتعالى آتى إبراهيم عليه السلام وولده الكتاب والحكم والنبوة ، وجعل لهم الملك والإمامة ، وهكذا وجدنا ذرية الأنبياء لا
تتعداهم النبوة والخلافة والوصية ، فما بالكم قد تعداكم ذلك ، وثبت في غيركم ونلقاكم مستضعفين مقهورين لا ترقب فيكم ذمة نبيكم ؟ !
فدمعت عينا ابي عبدالله عليه السلام ، ثم قال : نعم لم تزل أمناء الله مضطهدة مقهورة مقتولة بغير حق ، والظلمة غالبة ، وقليل من عباد الله الشكور.
قالوا : فاإن الأنبياء وأولادهم علموا من غير تعليم ، واُوتوا العلم تلقيناً وكذلك ينبغي لأئمتهم وخلفائهم وأوصيائهم، فهل اُوتيتم ذلك ؟
فقال أبو عبدالله عليه السلام : اُدن يا موسى. فدنوت ، فمسح يده على صدري، ثم قال : اللهم أيده بنصرك ، بحق محمد وآله. ثم قال : سلوه عما بدا لكم.
قالوا : وكيف نسأ ل طفلاً لا يفقه ؟
قلت : سلوني تفقهاً ودعوا العنت.
قالوا : أخبرنا عن الآيات التسع التي أُوتيها موسى بن عمران.
قلت : العصا ، وإخراجه يده من جيبه بيضاء ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، ورفع الطور ، والمن والسلوى آية واحدة ، وفلق البحر.
قالوا : صدقت ، فما اُعطي نبيكم من الآيات اللاتي نفت الشك عن قلوب من اُرسل إليه.
قلت : آيات كثيرة ، أعدها إن شاء الله ، فاسمعوا وعوا وافقهوا.
أمّا أول ذلك : انتم تقرّون أن الجن كانوا يسترقون السمع قبل مبعثه ، فمنعت في أوان رسالته بالرجوم وانقضاض النجوم، وبطلان الكهنة والسحرة.
ومن ذلك : كلام الذئب يخبر بنبوته ، واجتماع العدو والولي على صدق لهجته وصدق امانته ، وعدم جهله أيام طفوليته ، وحين ايفع وفتىً وكهلاً ، لا يعرف
[/right][right][/right]
اعلم انّ غاية الله تعالى من خلق هذا العالم وغرضه لم يكن لتحصيل منفعة ، لكونه تعالى غنيّاً بالذات ولا يحتاج الى الغير في أيّ كمال ، بل انّ الغاية والغرض فوز الخلائق إلى الكمالات التي تكون في شأنهم ، والنشأة الأنسانية ـ كما مضى ـ لها اهليّة واستعداد للوصول إلى الكمال اكثر من سائر المخلوقات.
ويبتدأ الكمال من رتبة خاتم الأنبياء صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي هو أشرف الكائنات ، وينتهي إلى رتبة أبي جهل و... الذين هم أخس الموجودات ، ومن الواضح انّ كمال الانسان يوجد بتحصيل الكمالات ورفع النقائص ، وهذا لا يتم إلا بوجود معلم ربانّي مؤيّد من قبل الله تعالى ، يعلم القبيح والحسن من الأشياء بوحي الله تعالى ، ويرشد الناس إلى الخيرات بالوعد والوعيد ، لأنّ نفوس البشر
باعتبار دواعي الشهوات واللذات ترغب إلى القبائح وتراها حسنة ، وهذا ـ أي رؤية القبيح والشهوات من الأمور الحسنة ـ مذهب اكثر الناس.
وليعلم أيضا أنّ هذه الأمور لا تتم من دون الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب ، ومن الواضح انّ عقل الانسان ـ بدون وحي الله ـ لا يحيط بخصوصيات ثواب كلّ عمل وعقاب كلّ جرم ، فلا يمكن ارشاد الخلق وايصالهم نحو الكمال الا بوجود شخص مبعوث من قبل الله تعالى ، يعلم حسن الأشياء وقبحها.
ولا بد لهذا الشخص من جهتين ، الجهة البشرية كي يجالس الناس ويؤانسهم ويصاحبهم ، ويتكلّم معهم ويألفهم ويختلط معهم كي يؤثر كلامه في نفوسهم ، والجهة الثانية ، الجهة الروحانية والقدسية والكمال كي يستعد بها للفيوضات اللامتناهية ، والقرب من ساحة الله المقدسة ، فبالجهة الثانية يأخذ العلوم والحكم والمعارف ، وبالجهة الأولى يوصلها إلى الخلق.
روي انّ زنديقا أتى أبا عبدالله عليه السلام يسأله عن مسائل ثم أسلم بعد ما أجابه عليه السلام ، وممّا سأله انّه قال : فمن أين أثبت أنبياء ورسلاً ؟ قال أبو عبدالله عليه السلام : انّا لما أثبتنا انّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيماً لم يجز أن يشاهده خلقه ، ولا يلامسهم ولا يلامسوه ، ولا يباشرهم ولا يباشروه ، ولا يحاجّهم ولا يُحاجوه ، فثبت انّ له سفراء في خلقه وعباده يدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم.
فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، وثبت عند ذلك انّ له معبرين وهم الأنبياء وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدّبين بالحكمة مبعوثين بها غير مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب ، مؤيّدين
من عند الله الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد ، من إحياء الموتى ، وابراء الأكمه والأبرص ، فا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدلّ على صدق مقال الرسول ووجوب عدالته (1).
واعلم انّ الامام عليه السلام أشار في هذا الحديث إلى دليل آخر ، وهو انّ الانسان مدنيّ بالطبع محتاج إلى الغير في أمر معاشه ومعاده ولا بد من معاشرة بعضهم بعضاً ، وهذه المعاشرة تستلزم عادة حدوث المشاجرات والمنازعات مما يستلزم وجود حاكم عليهم لرفع النزاع والظلم ولولاه لقتل بعضهم البعض حتى يفنوا عن آخرهم.
ولو لم يكن هذا الحاكم مؤيداً من قبل الله تعالى لم يأمن الاجحاف والظلم في حكمه ، مضافاً إلى انّ الحكم موقوف على العلم بالخصوصيات والجزئيات ، ومن الواضح عدم إحاطة العقل البشري لجميع الخصوصيات ، إذن لا بد أن يكون الحاكم مؤيداً بالوحي.
( الفائدة الثانية )
في المعجزة
اعلم انّ المعجزة هي الدليل على العلم بنبوة نبيّ للناس كافة ، والمعجزة أمر خارق للعادة تظهر من مدّعي النبوة ، ويعجز الغير عن الاتيان بمثلها ، كصيرورة العصى ثعباناً ، واحياء الموتى ، وشق القمر.
ووجه دلالتها على النبوة ظاهر ، فانّ كلّ شخص متى ما ادعى النبوة والرسالة من قبل الله ، وقال : انّ الدليل على صدق دعواي ظهور أمر غريب على يدي بإذن الله ، ثم يحدث في الواقع ما ادعاه ، وكان ذلك العمل خارجاً عن طاقة البشر ، يحصل العلم انّ هذا الشخص نبيّ حقيقةً.
كما لو قال شخص لجمع : اني مأمور من قبل الملك أن آمركم بالعمل الفلاني ، والشاهد على صدق دعواي قيام الملك من مكانه ثلاث مرات مثلاً أو فتحه الشباك ثم اغلاقه ثلاث مرات ، والملك حاضر يسمع ، فاذا فعل الملك هذه الأمور يحصل القطع واليقين للحضور بصدق دعوى هذا الشخص ، سواء أكان الملك في حجاب أم لا.
فكذلك لو أظهر الله تعالى المعجزة على المدعي الكاذب كان مصدقاً له ، وتصديق الكاذب قبيح ولا يليق بالله تعالى ، فكيف يجوّز العقل ظهور هذا التصديق الذي يوجب ضلال الخلق من الله اللطيف الرحيم.
وكما انّ رؤية المعجزة توجب العلم بالنبوة ، فكذلك سماعها من طرق الأخبار المتواترة توجب العلم أيضاً ، كما حصل لنا علم بوجود مدينة مكة بسبب الأخبار المتواترة ، فلا يزداد علمنا لو رأيناها بعد ذلك.
( الفائدة الثالثة )
في تقرير الدليل على نبوّة نبيّ آخر الزمان محمد بن عبد الله
بن عبد المطلب صلى الله عليه وآله وسلّم
اعلم انّ معاجزه الظاهرة ، وآياته الباهرة اكثر من أن تعد وتحصى ومن
معاجزه القرآن المجيد ، لأنّه عُلم بالتواتر انّ القرآن جاء معجزة طبقاً لدعوى النبوّة ، وكلّف جميع الفصحاء والبلغاء من قبائل العرب ـ وهم أكثر من الحصى ـ أن يأتوا بسورة صغيرة من مثله تضاهيها بالفصاحة والبلاغة ، فلم يتمكنوا من ذلك مع كثرة جماعتهم وشدّة عداوتهم ، وعصبيتهم وكفرهم ، وأقروا بعجزهم ، ووطنوا أنفسهم على الحرب والقتل مع كون الفصاحة والبلاغة حرفتهم ، والخطب والأشعار صنعتهم.
وقد روى ابن بابويه عليه الرحمة انّ ابن السكيت ( من علماء العامة ) قال لأبي الحسن الرضا عليه السلام : لماذا بعث الله عزّ وجلّ موسى بن عمران بالعصا ويده البيضاء وآلة السحر ، وبعث عيسى بالطب ، وبعث محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم بالكلام والخطب ؟
فقال أبو الحسن عليه السلام : انّ الله تبارك وتعالى لما بعث موسى عليه السلام كان الأغلب على أهل عصره السحر ، فأتاهم من عند الله عزّ وجلّ بما لم يكن في وسع القوم مثله ، وبما أبطل به سحرهم ، وأثبت به الحجة عليهم.
وانّ الله تبارك وتعالى بعث عيسى عليه السلام في وقت الظهر فيه الزمانات ، واحتاج الناس الى الطب ، فاتاهم من عند الله عزّ وجلّ بما لم يكن عندهم مثله ، وبما أحيى لهم الموتى ، وأبرأ لهم الأكمه والأبرص باذن الله عزّ وجلّ ، وأثبت به الحجة عليهم.
وانّ الله تبارك وتعالى بعث محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم في وقت كان الأغلب على أهل عصره الخطب والكلام ، وأظنه قال : والشعر ، فأتاهم من كتاب الله عزّ وجلّ وموعظه وأحكامه ما أبطل به قولهم ، واثبت به الحجة عليهم.
-
فقال ابن السكيت : تالله ما رأيت مثلك اليوم قط ، فما الحجة على الخلق اليوم ؟ فقال عليه السلام : العقل ، يعرف به الصادق على الله فيصدقه ، والكاذب على الله فيكذبه ، فقال ابن السكيت : هذا هو والله الجواب (1).
ويوجد كثير من المعاجز وخوارق العادات سوى القرآن وقد وردت في كتب الخاصه والعامة وأكثرها متواترة ، وعلى تقدير عدم تواتر بعضها فتواتر البعض الآخر متفق عليه ومما لا شك فيه ، كشق القمر ، وحركة الشجرة من مكانها ومجيئها إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ورجوعها الى مكانها بأمره ، ونبوع الماء من بين أصابعه صلّى الله عليه وآله وسلمّ بحيث سقى جميع العسكر مع دوابّهم ، وتسبيح الحصا في يده ، وتكلّم الشاة المسمومة معه.
واشباع جمع كثير من الطعام القليل ، ومتابعة الجن ايّاه ، ورجوع الشمس لأمير المؤمنين عليه السلام ، وشهادة التمساح بنبوّته ، وشكاية الناقة على صاحبها ، والإخبار عن احوال الأنبياء وغيرهم طبقاً للواقع من دون خلل واختلاف ، مع كونه صلّى الله عليه وآله وسلّم أُميّاً لم يقرأ شيئاً ولم يتعلّم عند أحد.
ولم يُغلب في الحجة من قبل أحد ، ولم يعجز عن الاجابة على أي سؤال ، والتنبؤ بوقوع اموري المستقبل ووقوعها كذلك ، كفتح مكة ، وقتح خيبر ، وغلبة الروم ، وفتح خزائن فارس والروم بيد المسلمين ، وقتال أمير المؤمنين عليه السلام مع جيش عائشة وطلحة والزبير ، ومعاوية ، وخوارج النهروان.
ومظلوميّة أهل البيت ، واستشهاد فاطمة الزهراء والحسن والحسين عليهم السلام ، وافتراق الأُمة إلى ثلاث وسبعين فرقة ، وتسلّط الإسلام على البلاد ، وغلبة
دينه على أديان الأنبياء الماضين ، وظهور الصوفية في هذه الأُمة ـ كما سيجيء في حديث أبي ذر.
وامثال هذه المعاجز وهي اكثر من أن تُحصى ، مضافاً الى ملاحظة أوصافه وأطواره صلّى الله عليه وآله وسلّم من نسب وحسب وعلم وحلم وهمةٍ ومروةٍ وأمانةٍ وديانةٍ وعدالةٍ وشجاعةٍ وفتوّةٍ وزهدٍ وورعٍ وقناعة وعبادة وترك العلائق ، وصفاء الطينة، ومجاهدة النفس، وحسن السلوك، وكيفية المعاشرة مع الخلق ، وصدق الحديث ، وحسن الأعمال ، واستقرار حبّه في القلوب ، وسائر الصفات الحميدة ، والخصال الحسنة ، فيجزم كلّ عاقل مع ملاحظتها بحقيقة نبوّته صلى الله عليه وآله وسلّم.
وكذلك لو تأمل شخص في أحكام الدين ، وضوابط الشريعة المقدسة التي جاء بها ، لعلم انّ هذا النسق من القانون لا يأتي الاّ من قبل الله تعالى ، والأخبار ببعثته صلّى الله عليه وآله وسلّم في كتب الأنبياء الباقية لحد الآن كثيرة ، وذكر ذلك يوجب التطويل، ونكتفي في بيان معاجزه في هذا الباب بذكر حديث.
روى الحميري في قرب الاسناد بسند عال عن معمر ، عن الرضا ، عن أبيه موسى بن جعفر عليهما السلام ، قال :
كنت عند أبي عبدالله عليه السلام ذات يوم ـ وأنا طفل خماسي (1) ـ إذ دخل عليه نفر من اليهود ، فقالوا : أنت ابن محمد نبيّ هذه الأُمة ، والحجة على أهل الأرض ؟ قال لهم : نعم.
قالوا : إنا نجد في التوراة أن الله تبارك وتعالى آتى إبراهيم عليه السلام وولده الكتاب والحكم والنبوة ، وجعل لهم الملك والإمامة ، وهكذا وجدنا ذرية الأنبياء لا
تتعداهم النبوة والخلافة والوصية ، فما بالكم قد تعداكم ذلك ، وثبت في غيركم ونلقاكم مستضعفين مقهورين لا ترقب فيكم ذمة نبيكم ؟ !
فدمعت عينا ابي عبدالله عليه السلام ، ثم قال : نعم لم تزل أمناء الله مضطهدة مقهورة مقتولة بغير حق ، والظلمة غالبة ، وقليل من عباد الله الشكور.
قالوا : فاإن الأنبياء وأولادهم علموا من غير تعليم ، واُوتوا العلم تلقيناً وكذلك ينبغي لأئمتهم وخلفائهم وأوصيائهم، فهل اُوتيتم ذلك ؟
فقال أبو عبدالله عليه السلام : اُدن يا موسى. فدنوت ، فمسح يده على صدري، ثم قال : اللهم أيده بنصرك ، بحق محمد وآله. ثم قال : سلوه عما بدا لكم.
قالوا : وكيف نسأ ل طفلاً لا يفقه ؟
قلت : سلوني تفقهاً ودعوا العنت.
قالوا : أخبرنا عن الآيات التسع التي أُوتيها موسى بن عمران.
قلت : العصا ، وإخراجه يده من جيبه بيضاء ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، ورفع الطور ، والمن والسلوى آية واحدة ، وفلق البحر.
قالوا : صدقت ، فما اُعطي نبيكم من الآيات اللاتي نفت الشك عن قلوب من اُرسل إليه.
قلت : آيات كثيرة ، أعدها إن شاء الله ، فاسمعوا وعوا وافقهوا.
أمّا أول ذلك : انتم تقرّون أن الجن كانوا يسترقون السمع قبل مبعثه ، فمنعت في أوان رسالته بالرجوم وانقضاض النجوم، وبطلان الكهنة والسحرة.
ومن ذلك : كلام الذئب يخبر بنبوته ، واجتماع العدو والولي على صدق لهجته وصدق امانته ، وعدم جهله أيام طفوليته ، وحين ايفع وفتىً وكهلاً ، لا يعرف
[/right][right][/right]