[ أقسام معرفة الله ]
اعلم انّ الايمان موجب للسعادة الأبدية ، وتركه موجب للشقاء الأبدي ، وأنّ الشيطان لصّ العقائد والأعمال ، واول سعي اللص هو في سرقة المتاع الثمين ، ثم يسعى لسرقة غيره لو لم يعثر عليه ، وفي هذا الطريق عقبات يكمن الشيطان فيها ، وأهمّ هذه العقبات معرفة واجب الوجود.
وقد أفلح اللعين في ادخال الكثير النار بسببها ، ولو أردت النجاة منها تمسّك بسفينة النجاة أعني أهل بيت الرسالة عليهم السلام و لا تتركها فانّهم يعلمون داء كل شيء ودواءه ، ويعلمون أي مكان يكمن الشيطان ، فيوصلون من اتبعهم إلى ساحل النجاة.
ولا تغتر فانّك متى ما لم تعرف الله بالدليل العقلي لا يمكنك معرفة النبي والامام لأنّ لمعرفة الله صورتين ، الاولى : العلم بوجود واجب الوجود ، وهذا اظهر من كل شيء ، ولا يحتاج إلى دليل الدور أو التسلسل اللذين يوجبان الحيرة
والتعطل.
وكما يظهر من الأخبار الكثيرة انّ معرفة واجب الوجود أمر فطري ، ومتى بلغ الانسان إلى حد الشعور يعلم انّ له صانعاً ، ومن تفكر في نفسه سواء أكان عالماً أم جاهلاً ، يعلم انّ معرفته لله لم تكن من طريق الأدلة الحكمية ، بل انّ الله تعالى رزقه المعرفة منذ الطفولة ، مضافاً إلى انّ الكفار لم يُكلّفوا بالاذعان بوجود واجب الوجود ، بل دُعوا إلى الاقرار بوحدانيته ثم عبادته وطاعته كي يكتمل ايمانهم.
روي انّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سأل يوماً اعرابياً : كيف علمت بوجود ربّك ؟ فقال : نحن نرى في الطريق بعرة البعير فيحكم عقلنا بانّ بعيراً مضى من هنا ، ونرى أثر الأقدام فنعلم انّ شخصاً مضى من هنا ، أفهذا السماء مع هذه الكواكب النيّرة ، والأرض مع هذه السعة لا يكفي في التصديق على وجود واجب الوجود العليم الخبير ؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : عليكم بدين الأعرابي (1).
ومَن أظهر ممن ترى مئات الآلاف مِنْ آياته في كلّ شيء ، وقد جعل في كل عضو من أعضائك مئات الآلاف من الأدلة ، وأنت محتاج إليه بمئات الاحتياجات في كلّ آن ولحظة وهو مربّيك ، نعم فهو من شدّة ظهوره خفي ، فانّه الظاهر دائماً ولا تقلّ آثار قدرته ، وانّ الشمس لو كانت دائمة الظهور لتوهم انّ هذا الضياء ليس منها ، لكن لمّا تغرب ثم تشرق وتنير العالم بنورها ، يُعلم انّ هذا النور منها ( بلا تشبيه ).
وبما انّ شمس عالم الوجود لا يغرب ولا يزول ، يزعم المعاند انّه لم يكن ،
____________
(1) مضمون النص.
ولو انّه ترك العناد لأذعن أن لا مدبر لهذا العالم غيره تعالى ، كما يقول الحق سبحانه وتعالى :
( ولئن سألتهم مّن خلق السموات والأرض ليقلونّ الله... ) (1).
روي عن الامام الحسن العسكري عليه السلام انّه قال : ... قال رجل للصادق عليه السلام : يا ابن رسول الله دلّني على الله ما هو فقد اكثر عليّ المجادلون وحيّروني ، فقال له : يا عبد الله هل ركبت سفينة قطّ ؟ قال : نعم ، قال : فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ، ولا سباحة تغنيك ؟ قال : نعم.
قال : فهل تعلّق قلبك هنالك انّ شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك ؟ قال : نعم ، قال الصادق عليه السلام : فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي ، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث (2).
وهذا الطريق من أوضح الطرق للعلم بواجب الوجود ، كما يقول الله تعالى :
( أمّن يُجيب المُضطَرّ اذا دعاه ُ ويكشف السوء ) (3).
ولا يخلو شخص عن هذه الحالة مع الله تعالى ، فايّ احتياج إلى الدليل بالنسبة إلى هذا الشخص ؟ كما يُمثل ( بلا تشبيه ) الشخص الذي يستدل بالأدلة والبراهين في تكليف الناس بمن دهمهم سارق ، ففي حين عثورهم عليه وإلقاء القبض عليه يصيح آخر بانه عثر على اللص ، وفي الواقع انه كان قد عثر على أثر السارق لا نفسه.
____________
(1) لقمان : 25.
(2) معاني الأخبار : 4 ضمن حديث 2 باب معنى الله عزّ وجلّ ـ عنه البحار 3 : 41 ح16 باب 3 في اثبات الصانع.
(3) النمل : 62.
فكذلك حال الرجل الصالح العارف لربه ، المتكلم والمناجي معه دائماً ، فانّه يتلقّى لطف الرب وإحسانه ، ويزداد يقينه بكثره العبادة يوماً فيوماً ، وليس شيء عنده أظهر ولا أوضح من وجود واجب الوجود ، فيأتي المتفلسف البعيد عن الله ويقول له : لا بد أن تعرف الرب عن طريق بطلان الدور والتسلسل ، وتعلم بوجوده عن طريق الآثار ، والاّ لم تكن كامل الإيمان.
وكذلك الحال في اثبات أصل الصفات الكمالية على نحو الاجمال ، كالعلم والقدرة والارادة وسائر الأوصاف الكمالية ، فالمتفكر في غرائب الصنع ، ولطائف الحكم الالهية الموجودة في الآفاق والأنفس ، لا يبقى في نفسه شك من وجودها وثبوتها ، ولو خفيت على هذا الشخص حكمُ بعض الأشياء ، فانّه يعلم مجملاً انّ خالق هذا الخلق ، ومدبّر هذا الكون لا يفعل من دون حكمة.
كما قال الامام الصادق عليه السلام في توحيد المفضل : «... فهم في ضلالهم وغيّهم وتجبّرهم بمنزلة عميان ، دخلوا داراً قد بُنيت أتقن بناء وأحسنه ، وفُرشت بأحسن الفرش وأفخره ، واُعد فيها ضروب الأطعمة والأشربة والملابس والمآرب (1) التي يحتاج إليها ولا يستغنى عنها ، ووضع كلّ شيء من ذلك موضعه على صواب من التقدير ، وحكمة من التدبير ، فجعلوا يترددون فيها يميناً وشمالاً ، ويطوفون بيوتها ادباراً واقبالاً ، محجوبة أبصارهم عنها ، لا يبصرون بنية الدار، وما اعدّ فيها ، وربما عثر بعضهم بالشيء الذي قد وضع موضعه ، واُعد للحاجة إليه وهو جاهل للمعنى فيه ، ولما اُعد ، ولماذا جعل ذلك.
فتذمّر وتسخط ، وذم الدار وبانيها ، فهذه حال هذا الصنف في انكارهم ما
____________
(1) المآرب : الحوائج.
انكروا من أمر الخلقة وثبات الصنعة... » (1).
الصورة الثانية ، التفكر في كنه ذات الله تعالى ، وكيفيّة صفات واجب الوجود ، ومن المستحيل معرفة كنه ذات الواجب ، وكذلك معرفة كنه الصفات ، لأنّها عين الذات لذا فان التكفر في أنحاء وجود ذاته وصفاته وكيفيتهما مُنع في الشريعة.
ووردت أخبار كثيرة في النهي عنه ، وانّ العقل الذي يعجز عن معرفة نفسه ، ومعرفة الجسم المتعلق به وأعضائه كيف يجرأ على التفكر في كنه معرفة واجب الوجود.
فلا بد حينئذٍ من الاعتقاد بما قال الله تعالى في القرآن والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والأئمة عليهم السلام في خطبهم البليغة ، وأحاديثهم المتواترة ، ثم يطلب الزيادة في الهداية من طريق كثرة العبادة والطاعة ، ولا يغتر بعقله الناقص ، فانّه لا ثمرة في هذا التفكر سوى الكفر والضلال والحيرة.
وكما ورد في حديث معتبر عن الامام محمد الباقر عليه السلام انّه قال : تكلّموا في خلق الله [ وغرائب صنعه ] (2) ولا تتكلّموا في الله ، فانّ الكلام في الله لا يزداد صاحبه الاّ تحيّراً. وفي رواية اُخرى : تكلّموا في كلّ شيء ولا تتكلّموا في ذات الله (3).
وروي بسند صحيح عن الامام جعفر الصادق عليه السلام انّه قال : انّ الله عزّ وجلّ يقول : ( وأن إلى ربّك المُنتهى ) (4).
____________
(1) توحيد المفضل : 45 المجلس الأول ـ عنه البحار 3 : 60 باب 4.
(2) هذه الزيادة من الترجمة وليست في المصدر.
(3) الكافي 1 : 92 ح1 باب النهي عن الكلام في الكيفية.
(4) النجم : 42.
فاذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا (1).
وجاء في حديث : اياكم والتفكر في الله ، ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته ، فانظروا في عظيم خلقه (2).
وروي انّه سُئل عليّ بن الحسين عليه السلام عن التوحيد ، فقال : انّ الله تعالى علم انّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون ، فأنزل الله تعالى : ( قل هو اللهُ احد * اللهُ الصّمد ) والآيات من سورة الحديد إلى قوله : ( وهو عليم بذات الصدور ) فمن رام ما وراء ذلك فقد هلك (3).
وفي حديث آخر عن الصادق عليه السلام قال : الأوصياء هم أبواب الله عزّ وجلّ التي يؤتى منها ، ولولاهم ما عُرف الله عزّ وجلّ ، وبهم احتجّ الله تبارك وتعالى على خلقه (4).
وهناك أحاديث كثيرة في هذا الباب ، والشيطان أغوى اكثر الخلق عن هذا الطريق ، فتركوا قول الله والرسول والأئمة عليهم السلام واعتمدوا على عقولهم الضعيفة ، فكلّ طائفة عرفت ربّها بنحو ، وقد أخطأ كلّهم ، هلاّ تفكروا انّ العقل لو كان مستقلاً وقادراً على التفكر في هذا الباب لما وجدت هذه الفرق الكثيرة من المتكلمين والحكماء ، وكلّهم من العقلاء.
فلا ترى في هذا الباب وسائر الابواب فرقتين متوافقتين ، كما زعم جمع من المتكلمين بعقلهم السخيف انّ الله جسم ، ويقولون : انّه نور يضيء كالشمس.
____________
(1) الكافي1 : 92 ح2 باب النهي عن الكلام في الكيفية ـ وفي البحار 3 : 264 ح23 باب 9 عن المحاسن.
(2) الكافي 1 : 93 ح7 باب النهي عن الكلام في الكيفية.
(3) البحار 3 : 264 ح21 باب 9 عن التوحيد للصدوق.
(4) الكافي 1 : 193 ح2 باب انّ الأئمة خلفاء الله.
وزعم بعض الصوفية من أهل السنة والمجسمة ، انّه سبحانه على هيئة فتى بسيط ، ويعتقد البعض الآخر انّه سبحانه على هيئة شيخ ذي لحية بيضاء ، ويعتقد الآخر انّه سبحانه جسم كبير جالس على العرش ، واعتقد جمع من الصوفية من أهل السنة ومن متكلميهم بل أكثرهم بالحلول في الأشياء.
واعتقدت النصارى الحلول في عيسى فقط ، واعتقد الصوفية الحلولية انّه سبحانه يحلّ في جميع الأشياء ، وقد لعن الله تعالى النصارى لهذا السبب في أماكن متعددة من القرآن ، وذكرهم بالكفر لنسبتهم هذه إلى الله تعالى.
وفرّ بعض الصوفيّة من ابناء العامة من الحلول لكنهم وقعوا في أمر اقبح منه واشنع ، وهو الاتحاد ، ويقولون : انّ الله تعالى متحد مع كل شيء بل هو كلّ شيء ولا وجود لغيره وهو الذي يظهر بصور مختلفة ، فتارة على صورة زيد ، واخرى على صورة عمرو ، وثالثة على صورة الكلب والهرة ، وأخرى على صورة القذارات والأوساخ [ نعوذ بالله ] كالبحر ، فانّه يتلاطم وتظهر منه صور مختلفة ، لكن في الحقيقة لا وجود لغير البحر.
وانّ الماهيّات الممكنة أُمور اعتبارية عرضت على ذات واجب الوجود ، وقد صرحوا في جميع كتبهم وأشعارهم بهذه الخزعبلات وكلمات الكفر ، وهذا هو اعتقاد بعض كفار وملحدي الهند بعينه ، وكتاب ( جوك ) المؤلف لعقائدهم الفاسدة مشحون بهذه الخزعبلات ، فلذا بعض من له مشرب التصوف في عصرنا يحترم هذا الكتاب غاية الاحترام ، ويجعله اكثر اعتباراً من كتب الشيعة ، وعدّوه من كتب عقائد الشيعة ولا بد لكل شخص أن يكون عنده نسخة منه.
وزعم بعض الشيعة البسطاء انّ هؤلاء أهل الحق وأحسن من في العالم ،
فيقرؤون كلامهم ويكفرون ، وبزعمهم انّ كلّ صوفيّ على مذهب الحق ولا يقول الا من الله تعالى ، ولا يعلمون بما ان الكفر والباطل قد ملئا العالم ، وانّ أهل الحق منكوبون ومخذولون دائماً ، فكان غالبية كلّ صنف تابعين للباطل وكانوا من فرق أهل السنة ، ودخل بعضهم في سلك التصوف والبعض الآخر في سلك العلماء ، وانّ كتب أكثر العلماء المتداولة اليوم كتب كفر وضلال ، الا القليل منهم بقوا على الحق وهم المتمسكون بأهل البيت عليهم السلام.
والصوفية اللعناء أكثرهم من العامة ومتمذهبين بالمذهب الأشعري ، وقد ذكروا نفس تلك العقائد الفاسدة من جبر وحلول وتجسيم وغيرها في كتبهم وأشعارهم ، وذكروا أيضاً فيها طريقة أهل السنة في العبادات والطاعات.
ولو قال أبو حنيفة في كتابه مثلاً انّ تلك الصلاة لا بد أن تُقام فلا يقبلون منه ، ولكن لو وصل إليهم علم من سفيان الثوري يأخذون به ، مع أنّ سفيان أسوء من أبي حنيفة ، كما روي الكليني بسند معتبر عن سدير انّه قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام وهو داخل وأنا خارج ، وأخذ بيدي ثم استقبل البيت ، فقال : يا سدير انّما أُمر الناس أن يأتو هذه الأحجار ، فيطوفوا بها ثم يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا ، وهو قول الله :
( وانّى لغفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثمّ اهتدى ) (1).
ـ ثم أومأ بيده إلى صدره ـ إلى ولايتنا ، ثم قال : يا سدير فاُريك الصادّين عن دين الله ، ثم نظر إلى ابي حنيفة ، وسفيان الثوري في ذلك الزمان وهم حلق في المسجد ، فقال : هؤلاء الصادون عن دين الله بلا هدى من الله وكتاب مبين ، انّ
____________
(1) طه : 82.
هؤلاء الأخابث لو جلسوا في بيوتهم فجال الناس فلم يجدوا أحداً يخبرهم عن الله تبارك وتعالى ، وعن رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى يأتونا ، فنخبرهم عن الله تبارك وتعالى وعن رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم (1).
وروى بسند معتبر آخر عن رجل من قريش من أهل مكة قال : قال سفيان الثوري : اذهب بنا الى جعفر بن محمد ، قال : فذهبت معه إليه ، فوجدناه قد ركب دابته ، فقال له سفيان : يا أبا عبدالله حدّثنا بحديث خطبة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في مسجد الخيف ، قال : دعني حتى أذهب في حاجتي فانّي قد ركبت فاذا جئت حدّثتك ، فقال : أسألك بقرابتك من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما حدّثتني.
قال : فنزل ، فقال له سفيان : مر لي بدواة وقرطاس حتى أثبته ، فدعا به ، ثم قال : اكتب ، [ بسم الله الرحمن الرحيم ، خطبة رسول الله صلّى الله وآله وسلّم في مسجد الخيف : نضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلّغها من لم تبلغه ، يا ايّها الناس ليبلّغ الشاهد الغائب ، فربّ حامل فقه ليس بفقيه ، وربّ حامل فقه الى من هو أفقه منه.
ثلاث لا يغل عليهنّ قلب امريء مسلم ، اخلاص العمل لله ، والنصيحة لأئمة المسلمين ، واللزوم لجماعتهم ، فانّ دعوتهم محيطة من ورائهم ، المؤمنون إخوة تتكافى دماؤهم وهم يدّ على من سواهم يسعى بذمتهم أدناهم ] (2).
فكتبه سفيان ، ثم عرضه عليه ، وركب أبو عبدالله عليه السلام وجئت أنا وسفيان ، فلمّا كنّا في بعض الطريق قال لي : كما أنت حتى أنظر في هذا الحديث ، فقلت له : قد والله ألزم أبو عبدالله رقبتك شيئاً لا يذهب من رقبتك أبداً ، فقال : وأيّ شيء
____________
(1) الكافي 1 : 392 ح3 كتاب الحجة.
(2) ليس ما جعلناه بين المعكوفتين في المتن الفارسي.
اعلم انّ الايمان موجب للسعادة الأبدية ، وتركه موجب للشقاء الأبدي ، وأنّ الشيطان لصّ العقائد والأعمال ، واول سعي اللص هو في سرقة المتاع الثمين ، ثم يسعى لسرقة غيره لو لم يعثر عليه ، وفي هذا الطريق عقبات يكمن الشيطان فيها ، وأهمّ هذه العقبات معرفة واجب الوجود.
وقد أفلح اللعين في ادخال الكثير النار بسببها ، ولو أردت النجاة منها تمسّك بسفينة النجاة أعني أهل بيت الرسالة عليهم السلام و لا تتركها فانّهم يعلمون داء كل شيء ودواءه ، ويعلمون أي مكان يكمن الشيطان ، فيوصلون من اتبعهم إلى ساحل النجاة.
ولا تغتر فانّك متى ما لم تعرف الله بالدليل العقلي لا يمكنك معرفة النبي والامام لأنّ لمعرفة الله صورتين ، الاولى : العلم بوجود واجب الوجود ، وهذا اظهر من كل شيء ، ولا يحتاج إلى دليل الدور أو التسلسل اللذين يوجبان الحيرة
والتعطل.
وكما يظهر من الأخبار الكثيرة انّ معرفة واجب الوجود أمر فطري ، ومتى بلغ الانسان إلى حد الشعور يعلم انّ له صانعاً ، ومن تفكر في نفسه سواء أكان عالماً أم جاهلاً ، يعلم انّ معرفته لله لم تكن من طريق الأدلة الحكمية ، بل انّ الله تعالى رزقه المعرفة منذ الطفولة ، مضافاً إلى انّ الكفار لم يُكلّفوا بالاذعان بوجود واجب الوجود ، بل دُعوا إلى الاقرار بوحدانيته ثم عبادته وطاعته كي يكتمل ايمانهم.
روي انّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سأل يوماً اعرابياً : كيف علمت بوجود ربّك ؟ فقال : نحن نرى في الطريق بعرة البعير فيحكم عقلنا بانّ بعيراً مضى من هنا ، ونرى أثر الأقدام فنعلم انّ شخصاً مضى من هنا ، أفهذا السماء مع هذه الكواكب النيّرة ، والأرض مع هذه السعة لا يكفي في التصديق على وجود واجب الوجود العليم الخبير ؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : عليكم بدين الأعرابي (1).
ومَن أظهر ممن ترى مئات الآلاف مِنْ آياته في كلّ شيء ، وقد جعل في كل عضو من أعضائك مئات الآلاف من الأدلة ، وأنت محتاج إليه بمئات الاحتياجات في كلّ آن ولحظة وهو مربّيك ، نعم فهو من شدّة ظهوره خفي ، فانّه الظاهر دائماً ولا تقلّ آثار قدرته ، وانّ الشمس لو كانت دائمة الظهور لتوهم انّ هذا الضياء ليس منها ، لكن لمّا تغرب ثم تشرق وتنير العالم بنورها ، يُعلم انّ هذا النور منها ( بلا تشبيه ).
وبما انّ شمس عالم الوجود لا يغرب ولا يزول ، يزعم المعاند انّه لم يكن ،
____________
(1) مضمون النص.
ولو انّه ترك العناد لأذعن أن لا مدبر لهذا العالم غيره تعالى ، كما يقول الحق سبحانه وتعالى :
( ولئن سألتهم مّن خلق السموات والأرض ليقلونّ الله... ) (1).
روي عن الامام الحسن العسكري عليه السلام انّه قال : ... قال رجل للصادق عليه السلام : يا ابن رسول الله دلّني على الله ما هو فقد اكثر عليّ المجادلون وحيّروني ، فقال له : يا عبد الله هل ركبت سفينة قطّ ؟ قال : نعم ، قال : فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ، ولا سباحة تغنيك ؟ قال : نعم.
قال : فهل تعلّق قلبك هنالك انّ شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك ؟ قال : نعم ، قال الصادق عليه السلام : فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي ، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث (2).
وهذا الطريق من أوضح الطرق للعلم بواجب الوجود ، كما يقول الله تعالى :
( أمّن يُجيب المُضطَرّ اذا دعاه ُ ويكشف السوء ) (3).
ولا يخلو شخص عن هذه الحالة مع الله تعالى ، فايّ احتياج إلى الدليل بالنسبة إلى هذا الشخص ؟ كما يُمثل ( بلا تشبيه ) الشخص الذي يستدل بالأدلة والبراهين في تكليف الناس بمن دهمهم سارق ، ففي حين عثورهم عليه وإلقاء القبض عليه يصيح آخر بانه عثر على اللص ، وفي الواقع انه كان قد عثر على أثر السارق لا نفسه.
____________
(1) لقمان : 25.
(2) معاني الأخبار : 4 ضمن حديث 2 باب معنى الله عزّ وجلّ ـ عنه البحار 3 : 41 ح16 باب 3 في اثبات الصانع.
(3) النمل : 62.
فكذلك حال الرجل الصالح العارف لربه ، المتكلم والمناجي معه دائماً ، فانّه يتلقّى لطف الرب وإحسانه ، ويزداد يقينه بكثره العبادة يوماً فيوماً ، وليس شيء عنده أظهر ولا أوضح من وجود واجب الوجود ، فيأتي المتفلسف البعيد عن الله ويقول له : لا بد أن تعرف الرب عن طريق بطلان الدور والتسلسل ، وتعلم بوجوده عن طريق الآثار ، والاّ لم تكن كامل الإيمان.
وكذلك الحال في اثبات أصل الصفات الكمالية على نحو الاجمال ، كالعلم والقدرة والارادة وسائر الأوصاف الكمالية ، فالمتفكر في غرائب الصنع ، ولطائف الحكم الالهية الموجودة في الآفاق والأنفس ، لا يبقى في نفسه شك من وجودها وثبوتها ، ولو خفيت على هذا الشخص حكمُ بعض الأشياء ، فانّه يعلم مجملاً انّ خالق هذا الخلق ، ومدبّر هذا الكون لا يفعل من دون حكمة.
كما قال الامام الصادق عليه السلام في توحيد المفضل : «... فهم في ضلالهم وغيّهم وتجبّرهم بمنزلة عميان ، دخلوا داراً قد بُنيت أتقن بناء وأحسنه ، وفُرشت بأحسن الفرش وأفخره ، واُعد فيها ضروب الأطعمة والأشربة والملابس والمآرب (1) التي يحتاج إليها ولا يستغنى عنها ، ووضع كلّ شيء من ذلك موضعه على صواب من التقدير ، وحكمة من التدبير ، فجعلوا يترددون فيها يميناً وشمالاً ، ويطوفون بيوتها ادباراً واقبالاً ، محجوبة أبصارهم عنها ، لا يبصرون بنية الدار، وما اعدّ فيها ، وربما عثر بعضهم بالشيء الذي قد وضع موضعه ، واُعد للحاجة إليه وهو جاهل للمعنى فيه ، ولما اُعد ، ولماذا جعل ذلك.
فتذمّر وتسخط ، وذم الدار وبانيها ، فهذه حال هذا الصنف في انكارهم ما
____________
(1) المآرب : الحوائج.
انكروا من أمر الخلقة وثبات الصنعة... » (1).
الصورة الثانية ، التفكر في كنه ذات الله تعالى ، وكيفيّة صفات واجب الوجود ، ومن المستحيل معرفة كنه ذات الواجب ، وكذلك معرفة كنه الصفات ، لأنّها عين الذات لذا فان التكفر في أنحاء وجود ذاته وصفاته وكيفيتهما مُنع في الشريعة.
ووردت أخبار كثيرة في النهي عنه ، وانّ العقل الذي يعجز عن معرفة نفسه ، ومعرفة الجسم المتعلق به وأعضائه كيف يجرأ على التفكر في كنه معرفة واجب الوجود.
فلا بد حينئذٍ من الاعتقاد بما قال الله تعالى في القرآن والنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والأئمة عليهم السلام في خطبهم البليغة ، وأحاديثهم المتواترة ، ثم يطلب الزيادة في الهداية من طريق كثرة العبادة والطاعة ، ولا يغتر بعقله الناقص ، فانّه لا ثمرة في هذا التفكر سوى الكفر والضلال والحيرة.
وكما ورد في حديث معتبر عن الامام محمد الباقر عليه السلام انّه قال : تكلّموا في خلق الله [ وغرائب صنعه ] (2) ولا تتكلّموا في الله ، فانّ الكلام في الله لا يزداد صاحبه الاّ تحيّراً. وفي رواية اُخرى : تكلّموا في كلّ شيء ولا تتكلّموا في ذات الله (3).
وروي بسند صحيح عن الامام جعفر الصادق عليه السلام انّه قال : انّ الله عزّ وجلّ يقول : ( وأن إلى ربّك المُنتهى ) (4).
____________
(1) توحيد المفضل : 45 المجلس الأول ـ عنه البحار 3 : 60 باب 4.
(2) هذه الزيادة من الترجمة وليست في المصدر.
(3) الكافي 1 : 92 ح1 باب النهي عن الكلام في الكيفية.
(4) النجم : 42.
فاذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا (1).
وجاء في حديث : اياكم والتفكر في الله ، ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته ، فانظروا في عظيم خلقه (2).
وروي انّه سُئل عليّ بن الحسين عليه السلام عن التوحيد ، فقال : انّ الله تعالى علم انّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون ، فأنزل الله تعالى : ( قل هو اللهُ احد * اللهُ الصّمد ) والآيات من سورة الحديد إلى قوله : ( وهو عليم بذات الصدور ) فمن رام ما وراء ذلك فقد هلك (3).
وفي حديث آخر عن الصادق عليه السلام قال : الأوصياء هم أبواب الله عزّ وجلّ التي يؤتى منها ، ولولاهم ما عُرف الله عزّ وجلّ ، وبهم احتجّ الله تبارك وتعالى على خلقه (4).
وهناك أحاديث كثيرة في هذا الباب ، والشيطان أغوى اكثر الخلق عن هذا الطريق ، فتركوا قول الله والرسول والأئمة عليهم السلام واعتمدوا على عقولهم الضعيفة ، فكلّ طائفة عرفت ربّها بنحو ، وقد أخطأ كلّهم ، هلاّ تفكروا انّ العقل لو كان مستقلاً وقادراً على التفكر في هذا الباب لما وجدت هذه الفرق الكثيرة من المتكلمين والحكماء ، وكلّهم من العقلاء.
فلا ترى في هذا الباب وسائر الابواب فرقتين متوافقتين ، كما زعم جمع من المتكلمين بعقلهم السخيف انّ الله جسم ، ويقولون : انّه نور يضيء كالشمس.
____________
(1) الكافي1 : 92 ح2 باب النهي عن الكلام في الكيفية ـ وفي البحار 3 : 264 ح23 باب 9 عن المحاسن.
(2) الكافي 1 : 93 ح7 باب النهي عن الكلام في الكيفية.
(3) البحار 3 : 264 ح21 باب 9 عن التوحيد للصدوق.
(4) الكافي 1 : 193 ح2 باب انّ الأئمة خلفاء الله.
وزعم بعض الصوفية من أهل السنة والمجسمة ، انّه سبحانه على هيئة فتى بسيط ، ويعتقد البعض الآخر انّه سبحانه على هيئة شيخ ذي لحية بيضاء ، ويعتقد الآخر انّه سبحانه جسم كبير جالس على العرش ، واعتقد جمع من الصوفية من أهل السنة ومن متكلميهم بل أكثرهم بالحلول في الأشياء.
واعتقدت النصارى الحلول في عيسى فقط ، واعتقد الصوفية الحلولية انّه سبحانه يحلّ في جميع الأشياء ، وقد لعن الله تعالى النصارى لهذا السبب في أماكن متعددة من القرآن ، وذكرهم بالكفر لنسبتهم هذه إلى الله تعالى.
وفرّ بعض الصوفيّة من ابناء العامة من الحلول لكنهم وقعوا في أمر اقبح منه واشنع ، وهو الاتحاد ، ويقولون : انّ الله تعالى متحد مع كل شيء بل هو كلّ شيء ولا وجود لغيره وهو الذي يظهر بصور مختلفة ، فتارة على صورة زيد ، واخرى على صورة عمرو ، وثالثة على صورة الكلب والهرة ، وأخرى على صورة القذارات والأوساخ [ نعوذ بالله ] كالبحر ، فانّه يتلاطم وتظهر منه صور مختلفة ، لكن في الحقيقة لا وجود لغير البحر.
وانّ الماهيّات الممكنة أُمور اعتبارية عرضت على ذات واجب الوجود ، وقد صرحوا في جميع كتبهم وأشعارهم بهذه الخزعبلات وكلمات الكفر ، وهذا هو اعتقاد بعض كفار وملحدي الهند بعينه ، وكتاب ( جوك ) المؤلف لعقائدهم الفاسدة مشحون بهذه الخزعبلات ، فلذا بعض من له مشرب التصوف في عصرنا يحترم هذا الكتاب غاية الاحترام ، ويجعله اكثر اعتباراً من كتب الشيعة ، وعدّوه من كتب عقائد الشيعة ولا بد لكل شخص أن يكون عنده نسخة منه.
وزعم بعض الشيعة البسطاء انّ هؤلاء أهل الحق وأحسن من في العالم ،
فيقرؤون كلامهم ويكفرون ، وبزعمهم انّ كلّ صوفيّ على مذهب الحق ولا يقول الا من الله تعالى ، ولا يعلمون بما ان الكفر والباطل قد ملئا العالم ، وانّ أهل الحق منكوبون ومخذولون دائماً ، فكان غالبية كلّ صنف تابعين للباطل وكانوا من فرق أهل السنة ، ودخل بعضهم في سلك التصوف والبعض الآخر في سلك العلماء ، وانّ كتب أكثر العلماء المتداولة اليوم كتب كفر وضلال ، الا القليل منهم بقوا على الحق وهم المتمسكون بأهل البيت عليهم السلام.
والصوفية اللعناء أكثرهم من العامة ومتمذهبين بالمذهب الأشعري ، وقد ذكروا نفس تلك العقائد الفاسدة من جبر وحلول وتجسيم وغيرها في كتبهم وأشعارهم ، وذكروا أيضاً فيها طريقة أهل السنة في العبادات والطاعات.
ولو قال أبو حنيفة في كتابه مثلاً انّ تلك الصلاة لا بد أن تُقام فلا يقبلون منه ، ولكن لو وصل إليهم علم من سفيان الثوري يأخذون به ، مع أنّ سفيان أسوء من أبي حنيفة ، كما روي الكليني بسند معتبر عن سدير انّه قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام وهو داخل وأنا خارج ، وأخذ بيدي ثم استقبل البيت ، فقال : يا سدير انّما أُمر الناس أن يأتو هذه الأحجار ، فيطوفوا بها ثم يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا ، وهو قول الله :
( وانّى لغفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثمّ اهتدى ) (1).
ـ ثم أومأ بيده إلى صدره ـ إلى ولايتنا ، ثم قال : يا سدير فاُريك الصادّين عن دين الله ، ثم نظر إلى ابي حنيفة ، وسفيان الثوري في ذلك الزمان وهم حلق في المسجد ، فقال : هؤلاء الصادون عن دين الله بلا هدى من الله وكتاب مبين ، انّ
____________
(1) طه : 82.
هؤلاء الأخابث لو جلسوا في بيوتهم فجال الناس فلم يجدوا أحداً يخبرهم عن الله تبارك وتعالى ، وعن رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتى يأتونا ، فنخبرهم عن الله تبارك وتعالى وعن رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم (1).
وروى بسند معتبر آخر عن رجل من قريش من أهل مكة قال : قال سفيان الثوري : اذهب بنا الى جعفر بن محمد ، قال : فذهبت معه إليه ، فوجدناه قد ركب دابته ، فقال له سفيان : يا أبا عبدالله حدّثنا بحديث خطبة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في مسجد الخيف ، قال : دعني حتى أذهب في حاجتي فانّي قد ركبت فاذا جئت حدّثتك ، فقال : أسألك بقرابتك من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما حدّثتني.
قال : فنزل ، فقال له سفيان : مر لي بدواة وقرطاس حتى أثبته ، فدعا به ، ثم قال : اكتب ، [ بسم الله الرحمن الرحيم ، خطبة رسول الله صلّى الله وآله وسلّم في مسجد الخيف : نضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلّغها من لم تبلغه ، يا ايّها الناس ليبلّغ الشاهد الغائب ، فربّ حامل فقه ليس بفقيه ، وربّ حامل فقه الى من هو أفقه منه.
ثلاث لا يغل عليهنّ قلب امريء مسلم ، اخلاص العمل لله ، والنصيحة لأئمة المسلمين ، واللزوم لجماعتهم ، فانّ دعوتهم محيطة من ورائهم ، المؤمنون إخوة تتكافى دماؤهم وهم يدّ على من سواهم يسعى بذمتهم أدناهم ] (2).
فكتبه سفيان ، ثم عرضه عليه ، وركب أبو عبدالله عليه السلام وجئت أنا وسفيان ، فلمّا كنّا في بعض الطريق قال لي : كما أنت حتى أنظر في هذا الحديث ، فقلت له : قد والله ألزم أبو عبدالله رقبتك شيئاً لا يذهب من رقبتك أبداً ، فقال : وأيّ شيء
____________
(1) الكافي 1 : 392 ح3 كتاب الحجة.
(2) ليس ما جعلناه بين المعكوفتين في المتن الفارسي.