معيارية الثبات والتحول
قبل أن ندخل في صلب الموضوع لا بد من تحديد المقصود بالثبات والتحول،[25] وتشخيص ماهية المعيار الذي نحكم به على المفاهيم، فنضفي عنصر الثبات على واحد لنسلبه من آخر ليغدو بعد ذلك مفهوماً متحولا.
وسنلحظ أن المدارس الفلسفية تتفاوت بطبيعتها في تحديد الموقف من هذه المفاهيم، فمنها من ينفي بالمرة وجود مفاهيم ثابتة لا تقبل التحوّل،[26] كما نلحظ ذلك في النشأة الأولى للفكر السفسطي وكذا في الاتجاهات البوهيمية وأمثالها، فيما يتوسع البعض الآخر ليقف على النقيض من ذلك فيجعل جميع المفاهيم كتلة من الثوابت التي لا مجال للتحول فيها، كما نلحظ ذلك في الاتجاهات الجبرية وغيرها ولكن الفلسفة الدينية الإسلامية وغالبية الفلسفات الوضعية[27] تتفقان على تقسيم المفاهيم إلى ثابتة لا يمكن الحياد عنها، وأخرى متحولة لا تتمتع بصفة الثبات فتخضع عندئذ للشرائط الموضوعية المنعكسة من الواقع الاجتماعي، ولكن هذه الاتفاق لا يعكس إلا شكل الأمر، غير إن واقع الحال يشير إلى وجود تناقض جوهري ما بين الاتجاهين في طبيعة مصادر الثبات والتحول ونوعيته وكيفية التعامل معه.
وأيا كان وضع هذه الفلسفات فمما لا ريب فيه أننا من دون القول بوجود ثبات معين في عالم الأفكار كأن يكون للكون خالقاً، وكون المعلول متسبباً عن علة، وأن الكل أكبر من الجزء، وأن النقيض لا يجتمع مع نقيضه في عرض وزمان واحد، وغير ذلك من أمهات المرتكزات التي يقوم عليها الفكر والمنطق الإنساني، فلا يمكن عندئذ الحديث عن وجود فكر بالمطلق، فمن غير هذا الثبات علينا أن نذعن للتفكير السفسطي والعمال كل مقتضيات الدور والتسلسل الفلسفيين.
ولا يعنينا هنا الخوض في تفاصيل هذه المسائل من وجهة نظر المدارس الفلسفية، حيث أن الموضوع غير مخصص ذلك، ولكن يعنينا بحث هذه المسألة من وجهة النظر الإسلامية ضمن الحدود التي يسمح بها مجال البحث هنا[28].
وليس من العسير العثور على أهم معالم وجهة النظر هذه وأبرزها على الإطلاق في تحكم النص المقدس في معيارية الثبات والتحول حيث يلعب النص المقدس دور الضابط الموضوعي في ثبات المفاهيم وتحولها، من دون أن نجد أي مجال للقول بأن الثبات والتحول تتحكم فيه المعايير التي من شأنها أن تتسبب في التعتيم على الحقيقة والتضبيب على فهمها.
فمن الواضح أن الفهم الإسلامي للحجة الإلهية يتسم بالقول بأن هذه الحجة من البساطة والوضوح ما يجعلها متيسرة لفهم الجميع ولو ارتكازاً، بشكل ينسجم تماماً مع مقتضيات أن تكون هذه الحجة هي المعيار الذي سيقاصّ الله سبحانه وتعالى من عباده يوم القيامة، فيهب جنته لمن أحسن التمسك بعروته الوثقى، ويدخل النار من تخلف عن ذلك، وهذا لا يمكن أن يكون إلا من خلال أن تكون الحجة الإلهية الملقاة على الناس من الوضوح بمكان بحيث تتناسب مع المفهوم القرآني عن العدل الإلهي، فالله جل وعلا لم يخلق الخلق حينما خلقهم ليتركهم سدى هملاً (أيحسب الإنسان أن يترك سدى)[29] بل أمدّه برعاية وهداية كاملتين بعد أن أمدّه بكل مستلزمات الاستفادة من هذه الرعاية والهداية وأوضح له بما لا مجال للبس فيه مآل موقفه من مواقف الهداية والرعاية (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً. إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً. إنا اعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالاً وسعيرا. إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا الخ..)[30]وأوضح أنه لن يظلم أحداً فقال: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلماً للعالمين)[31] وكذا قوله تعالى: (إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض)[32].
ونظراً لطبيعة أن الذي لا يظلم عبيده ينبغي أن يوضح أوامره لهم بشكل لا مجال للبس فيه، لذا فإن الله سبحانه وتعالى ولطبيعة رحمته التي وسعت كل شيء لم يكتف بإبلاغ حجته كاملة على عباده فحسب، بل وأرسل رسولا منه ليبلغ هذه الحجة بشيرا ونذيرا، ومن ثم ليكون مصدر رحمة للعالمين، كما وصفه سبحانه: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)[33] ولهذا عبّر سبحانه وتعالى عن أن له الحجة البالغة: (قل فلله الحجة البالغة)[34] لكونه سد جميع أبواب الاعتذار أمام عباده لتفادي اعتذارهم يوم القيامة بأي عذر فقال: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون)[35] وهذا الأمر من بديهيات العدالة الإلهية.
وإذا كان الأمر كذلك، فمن البديهي بمكان القول بعدم وجود أي مجال لأن يدع الشارع المقدس المفاهيم والأفكار التي لها أعمق الآثار في فهم الشارع والتشريع، عرضة لفهم العبد، فالعبد إذا كان مأموراً باتباع سبيل محدد، كيف يمكن له سبيل ذلك؟ في وقت يترك فهمه لهذا السبيل لرحمة حدود غير منضبطة بضابطة محددة، ولا مؤطرة بإطار محدد، بل هي متروكة في واقع الأمر لنفسه ومقتضيات بنائه الفكري والذي تتداخل فيه أهواء جمة، ترسمها ضغوط الواقع تارة، وإغراءات الحياة أخرى، ومجاهيل عدة تحددها إخفاقات الحكمة مرة وعجزه عن نيلها أخرى؟!! بل كان الشارع المقدس بالمرصاد لتفكير من هذا القبيل، فحدد أن النص الإلهي فيه محكم وفيه متشابه، وهذا الأخير يمكن أن يكون عرضة لتلاعب أصحاب القلوب المريضة، أو أصحاب العقول العاجزة، مما سيجعله مدعاة لفتنة عبيده وصدّهم عن بركاته وهداه كما في قوله تعالى: (هو الذين أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله)[36].
وهذا الأمر سيسهّل مؤونتنا في إماطة اللثام عن حقيقتين جوهريتين، وهما:
أـ إن المعايير التي تتحكم في المفاهيم مطلقة وليست نسبية، بمعنى أن هناك ضوابط صارمة في تحديد اتجاهات الإطلاق في النص، واتجاهات التغير والتحول فيه، فهذا النص فيه محكمات (هن أم الكتاب) لا يمكن العبث فيهما أبداً، وكل انحياز عنهما يعني الانحياز عن الدين، وثبات هذه المحكمات يحدد بدوره ثبات التفاصيل المتعلّقة بها، والتي تطلق الآية الكريمة عليها اسم (المتشابهات).
ولكن لطبيعة التداخل بين هذه المتشابهات مع تفاصيل الحياة الرسالية المختلفة، وإمكان التصادم بين الأوليات المطروحة أمام هذه الحياة سميت بالمتشابهات حيث سنرى أن التحول في الالتزام بها، والذي سيطر أ عليها نتيجة لظروف الحياة المختلفة لا يلغيها بحيث يجعلها نسبية قابلة لتغير كما توهّم ذلك بعض الكتّاب ومنهم محمد حسين فضل الله في مقالات عدة حيث اعتبر القيمة في الأديان نسبية حيث يقول ما نصه: (إن قضية الحلال والحرام لا تتجمد في هذه المفردة أو تلك المفردة، وإنما تنطلق إلى ما وراء ذلك من الهدف الذي يتحرك الحرام من أجل أن يبعده، أو يتحرك الحلال من أجل أن يؤكده، على هذا الأساس القيمة حتى في الأديان نسبية[37]).
وكذا قوله: إن الإنسانية ليست قيماً غير مثالية ومطلقة وإنما هي قيم نسبية، إلى أن يقول: إن القيمة في الإسلام في جانبها السلبي أو الإيجابي ليست مطلقة، بل هي نسبية).[38].
بل إنه سيؤجل العمل بها لمصلحة ما يتقدمه في سلم الأولوية، فنحن إن رأينا أن الحكم بالصدق يغدو حراماً إن اقترن بأذى المجتمع كلاً أو جزءاً من قبل الطاغوت، فلا يعني ذلك أن قيمة الصدق كانت نسبية، فتغيرت من الحسن إلى القبح هنا، بل لأن حفظ المجتمع من أذى الطاغوت يمثل أولوية تفوق أولوية الحفاظ على الصدق، لذلك تقدمت هذه الأولوية على تلك، من دون أن يلغي قيمة الصدق المناقبية، مثلها مثل من يحمل ذهباً في سفينة تكاد أن تغرق بسبب حملة الذهب، فتعمده إلقاء الذهب في البحر، لا يلغي قيمة الذهب بل لأن حياته أغلى من الذهب، لذلك قدم الأهم على المهم، من دون أن يعني تقديم الأهم انتفاء قيمة المهم، الذي سيعود إلى أهميته حالما يرتفع الطارئ، في حين أن نسبية القيم، تطيح بالقيم حتى وإن ارتفع الطارئ الذي يمثل استنثاءا في الحياة لا واقعاً ثابتاً.
ولهذا نجد النص القرآني يوجد سلّماً في الأولويات لجعله هو الضابطة المعيارية التي تتحكم في تطبيق الأحكام في حال التعارض.
ولكن هذه الضابطة إن لم يتم التعرف عليها بدقة، فإنها ستكون مدعاة لحصول واحدة من نتيجتين على الأقل:
الأولى: أنها ستكون أداة بيد المتسلّطين على عامة المجتمع بأي شكل من أشكال التسلّط فيستغلونها لتحقيق مآربهم وأهدافهم السيئة، كما صوّرهم الباري جلّت قدرته في نفس هذه الآية: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة) أو كما نرى النتيجة في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم)[39] في وقت لا يجد المجتمع أي مجال للتخلص من ربقة ظلمهم إلا بالتحرر من النص نفسه، وفي ذلك من المفسدة العظيمة والشر المطلق ما لا يخفى، ومعرفة تداعيات صراع الكنيسة الأوربية مع الآخر إبان القرون الماضية تكشف حجم الأضرار التي يمكن أن يفرزها مثل هذا الواقع، حيث تصور الأوربيون أن صراعهم مع سلطة الكنيسة هو صراع ديني، لذا خاضوا معاركهم ضد الدين مباشرة!!.
الثانية: أن هذا الكتاب الذي أطلق هذه المتشابهات نزل من عند الله، وفيه من الأسرار التي لا يستطيع بالضرورة نليها وإدراكها كل من رام إليها سبيلاً، فدين الله وعلمه قد أتيح لخاصة أوليائه فقط، وليس لعامة الناس، (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)[40] وإلا لما افترض وجود وحي، وجعل المنزل عليه معصوماً لا يزلّ ولا يخطئ، ويتلقى هذا العلم بصورة استثنائية لعلنا نتلمس بعض آفاقها في ما تعكسه لنا مقدمة سورة النجم (والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحى يوحى . علمه شديد القوى . ذو مرة فاستوى. وهو بالأفق الأعلى. ثم دنا فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدنى. فأوحى إلى عبده ما أوحى. ما كذب الفؤاد ما رأى. أفتمارونه على ما يرى. ولقد رآه نزلة أخرى. عند سدرة المنتهى. عندها جنة المأوى . إذ يغشى السدرة ما يغشى . ما زاغ البصر وما طغى. لقد رأى من آيات ربه الكبرى) ولهذا فإن هذه الأسرار إن تصدّى لحلّها من لا أهلية له في هذا المجال فإن العاقبة الحتمية لعملية ابتغاء التأويل بهذه الصورة ستكون زيغا عن الهدى، وضياعاً عن الطريق لأن لعملية التأويل المطلوبة جهة محددة لم يفسح المجال لغيرها في فك أسرار هذه الكتاب وفق ما تبينه الآية الكريمة: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم)[41].
وترينا الصورة التي تمخضت عنها مأساة السقيفة من ضلال الناس بعيداً عن الدين، وإذا بالرسالة التي بعثت هدى للعالمين سرعان ما غدت ملهاة بيد من لا خبرة له بعلم، ولا سابقة له في فهم، وليس أدل على ذلك من المهازل الدينية والسياسية التي ارتكبت في زمن الخليفة الأول كالحادثة المفجعة التي تمخضت عنها شهادة الزهراء البتول (عليها السلام) بعد غصب حقوقها المادية في فدك، والوجدانية في حقها بالبكاء على أبيها رسول الله (ص) فضلاً عن الدينية بالحفاظ على إمامة الناس في الموضع الذي وضعه الرسول الأكرم (صلوات الله عليه وآله)، وكذا السياسية بأخذ مشورتها على الأقل فيمن سيخلف الرسول الأعظم، ناهيك عن سائر مآسي أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، والجريمة النكراء بحق الصحابي الجليل مالك بن نويرة، واغتيال سعد بن عبادة، وحرق الفجاءة السلمي، وعشرات غيرها!!.
ب ـ مثلما رأينا أن الضابطة التي تحكم الثبات والتغيير في التشريع هي النص، فمن البداهة بمكان أن يكون مصدر تشخيص التغير والثبات، ومحل الحسم في خصوصيات التزاحم بينهما هو المؤتمن على هذا النص، لا أي أحد من الناس، ففي وقت حذرنا الله جل وعلا من خطورة التأويل لأنها تكتنف الوقوع في الفتنة، وأوضح لنا أن عملية التأويل هذه في أحسن صورها ستكون زيغاً عن الطريق وإن لم تقترن بفساد النوايا، وضرب لنا مثلا في كيفية انتهاب الكثير من الأحبار والرهبان لمصالح العباد وعبثهم بدين الله، بل أوضح لنا أن حتى من حظي بكرامات الله لم يكن بمنأى من الوقوع في مخاطر أهواء النفس وشهواتها كما في قصة بلعم بن باعوراء (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين)[42].
ولهذا فمن العبث بمكان الحديث عن ضابطة واقعية للتأويل بمعزل عن من اختصه الله لعلمه وأتمنه على وحيه، ولهذا شخّص الله هذه الحقيقة بصورة قاطعة لا مجال لأي لبس فيها (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب).
وعليه فإن تشخيص الثبات والتغير في الشريعة إنما هو من اختصاص النص الإلهي وحده والذي يمثله في عرفنا ـ نحن الإمامية ـ الكتاب الكريم كنص مكتوب، والسنة المعظمة للمعصوم (صلوات الله عليه) كقول وفعل وتقرير له (صلوات الله عليه)، وأي دعوى للخروج بهذا الفهم عن هذه الدائرة تمثل معلماً أساسيا من معالم الانحراف عن إطار هذا النص.
----------------
[25] - قد يعمد بعض المفكرين إلى استخدام مصطلح التحرك بدلاً من التحول في أدبياتهم ويريد بها نفس معنى التحول.
[26] - من يتأمل بدقة فسيجد بوضوح أن واقع هذه الفكرة ـ أي عدم وجود ثوابت معيارية وفكرية ـ بحد ذاتها تفند مزاعم هذا الاتجاه، فإن كانت هذه الفكرة راسخة بحيث أنهم يرفضون زعزعتها، فلقد حولوها إلى ثابت فناقضوا كلامهم عندئذ، وإن لم تكن ثابتة وكانت قابلة للتحول فيمكن عندئذ القول بوجود ضدها، فتتحول عندئذ إلى صف القائلين بوجود ثوابت في المعايير والمفاهيم.
[27] - وإن كان البعض منها قد يقف موقفا مخالفاً من فكرة ثبات المفاهيم ولكن التدقيق في المعطيات المترتبة على هذه المواقف تجعلنا نشك في دقة هذه المخالفة وموضوعيتها.
[28] - كنا قد فصلنا القول عن ذلك في بحثنا (غير مطبوع) الصراع الاجتماعي في
قبل أن ندخل في صلب الموضوع لا بد من تحديد المقصود بالثبات والتحول،[25] وتشخيص ماهية المعيار الذي نحكم به على المفاهيم، فنضفي عنصر الثبات على واحد لنسلبه من آخر ليغدو بعد ذلك مفهوماً متحولا.
وسنلحظ أن المدارس الفلسفية تتفاوت بطبيعتها في تحديد الموقف من هذه المفاهيم، فمنها من ينفي بالمرة وجود مفاهيم ثابتة لا تقبل التحوّل،[26] كما نلحظ ذلك في النشأة الأولى للفكر السفسطي وكذا في الاتجاهات البوهيمية وأمثالها، فيما يتوسع البعض الآخر ليقف على النقيض من ذلك فيجعل جميع المفاهيم كتلة من الثوابت التي لا مجال للتحول فيها، كما نلحظ ذلك في الاتجاهات الجبرية وغيرها ولكن الفلسفة الدينية الإسلامية وغالبية الفلسفات الوضعية[27] تتفقان على تقسيم المفاهيم إلى ثابتة لا يمكن الحياد عنها، وأخرى متحولة لا تتمتع بصفة الثبات فتخضع عندئذ للشرائط الموضوعية المنعكسة من الواقع الاجتماعي، ولكن هذه الاتفاق لا يعكس إلا شكل الأمر، غير إن واقع الحال يشير إلى وجود تناقض جوهري ما بين الاتجاهين في طبيعة مصادر الثبات والتحول ونوعيته وكيفية التعامل معه.
وأيا كان وضع هذه الفلسفات فمما لا ريب فيه أننا من دون القول بوجود ثبات معين في عالم الأفكار كأن يكون للكون خالقاً، وكون المعلول متسبباً عن علة، وأن الكل أكبر من الجزء، وأن النقيض لا يجتمع مع نقيضه في عرض وزمان واحد، وغير ذلك من أمهات المرتكزات التي يقوم عليها الفكر والمنطق الإنساني، فلا يمكن عندئذ الحديث عن وجود فكر بالمطلق، فمن غير هذا الثبات علينا أن نذعن للتفكير السفسطي والعمال كل مقتضيات الدور والتسلسل الفلسفيين.
ولا يعنينا هنا الخوض في تفاصيل هذه المسائل من وجهة نظر المدارس الفلسفية، حيث أن الموضوع غير مخصص ذلك، ولكن يعنينا بحث هذه المسألة من وجهة النظر الإسلامية ضمن الحدود التي يسمح بها مجال البحث هنا[28].
وليس من العسير العثور على أهم معالم وجهة النظر هذه وأبرزها على الإطلاق في تحكم النص المقدس في معيارية الثبات والتحول حيث يلعب النص المقدس دور الضابط الموضوعي في ثبات المفاهيم وتحولها، من دون أن نجد أي مجال للقول بأن الثبات والتحول تتحكم فيه المعايير التي من شأنها أن تتسبب في التعتيم على الحقيقة والتضبيب على فهمها.
فمن الواضح أن الفهم الإسلامي للحجة الإلهية يتسم بالقول بأن هذه الحجة من البساطة والوضوح ما يجعلها متيسرة لفهم الجميع ولو ارتكازاً، بشكل ينسجم تماماً مع مقتضيات أن تكون هذه الحجة هي المعيار الذي سيقاصّ الله سبحانه وتعالى من عباده يوم القيامة، فيهب جنته لمن أحسن التمسك بعروته الوثقى، ويدخل النار من تخلف عن ذلك، وهذا لا يمكن أن يكون إلا من خلال أن تكون الحجة الإلهية الملقاة على الناس من الوضوح بمكان بحيث تتناسب مع المفهوم القرآني عن العدل الإلهي، فالله جل وعلا لم يخلق الخلق حينما خلقهم ليتركهم سدى هملاً (أيحسب الإنسان أن يترك سدى)[29] بل أمدّه برعاية وهداية كاملتين بعد أن أمدّه بكل مستلزمات الاستفادة من هذه الرعاية والهداية وأوضح له بما لا مجال للبس فيه مآل موقفه من مواقف الهداية والرعاية (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً. إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً. إنا اعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالاً وسعيرا. إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا الخ..)[30]وأوضح أنه لن يظلم أحداً فقال: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلماً للعالمين)[31] وكذا قوله تعالى: (إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض)[32].
ونظراً لطبيعة أن الذي لا يظلم عبيده ينبغي أن يوضح أوامره لهم بشكل لا مجال للبس فيه، لذا فإن الله سبحانه وتعالى ولطبيعة رحمته التي وسعت كل شيء لم يكتف بإبلاغ حجته كاملة على عباده فحسب، بل وأرسل رسولا منه ليبلغ هذه الحجة بشيرا ونذيرا، ومن ثم ليكون مصدر رحمة للعالمين، كما وصفه سبحانه: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)[33] ولهذا عبّر سبحانه وتعالى عن أن له الحجة البالغة: (قل فلله الحجة البالغة)[34] لكونه سد جميع أبواب الاعتذار أمام عباده لتفادي اعتذارهم يوم القيامة بأي عذر فقال: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون)[35] وهذا الأمر من بديهيات العدالة الإلهية.
وإذا كان الأمر كذلك، فمن البديهي بمكان القول بعدم وجود أي مجال لأن يدع الشارع المقدس المفاهيم والأفكار التي لها أعمق الآثار في فهم الشارع والتشريع، عرضة لفهم العبد، فالعبد إذا كان مأموراً باتباع سبيل محدد، كيف يمكن له سبيل ذلك؟ في وقت يترك فهمه لهذا السبيل لرحمة حدود غير منضبطة بضابطة محددة، ولا مؤطرة بإطار محدد، بل هي متروكة في واقع الأمر لنفسه ومقتضيات بنائه الفكري والذي تتداخل فيه أهواء جمة، ترسمها ضغوط الواقع تارة، وإغراءات الحياة أخرى، ومجاهيل عدة تحددها إخفاقات الحكمة مرة وعجزه عن نيلها أخرى؟!! بل كان الشارع المقدس بالمرصاد لتفكير من هذا القبيل، فحدد أن النص الإلهي فيه محكم وفيه متشابه، وهذا الأخير يمكن أن يكون عرضة لتلاعب أصحاب القلوب المريضة، أو أصحاب العقول العاجزة، مما سيجعله مدعاة لفتنة عبيده وصدّهم عن بركاته وهداه كما في قوله تعالى: (هو الذين أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله)[36].
وهذا الأمر سيسهّل مؤونتنا في إماطة اللثام عن حقيقتين جوهريتين، وهما:
أـ إن المعايير التي تتحكم في المفاهيم مطلقة وليست نسبية، بمعنى أن هناك ضوابط صارمة في تحديد اتجاهات الإطلاق في النص، واتجاهات التغير والتحول فيه، فهذا النص فيه محكمات (هن أم الكتاب) لا يمكن العبث فيهما أبداً، وكل انحياز عنهما يعني الانحياز عن الدين، وثبات هذه المحكمات يحدد بدوره ثبات التفاصيل المتعلّقة بها، والتي تطلق الآية الكريمة عليها اسم (المتشابهات).
ولكن لطبيعة التداخل بين هذه المتشابهات مع تفاصيل الحياة الرسالية المختلفة، وإمكان التصادم بين الأوليات المطروحة أمام هذه الحياة سميت بالمتشابهات حيث سنرى أن التحول في الالتزام بها، والذي سيطر أ عليها نتيجة لظروف الحياة المختلفة لا يلغيها بحيث يجعلها نسبية قابلة لتغير كما توهّم ذلك بعض الكتّاب ومنهم محمد حسين فضل الله في مقالات عدة حيث اعتبر القيمة في الأديان نسبية حيث يقول ما نصه: (إن قضية الحلال والحرام لا تتجمد في هذه المفردة أو تلك المفردة، وإنما تنطلق إلى ما وراء ذلك من الهدف الذي يتحرك الحرام من أجل أن يبعده، أو يتحرك الحلال من أجل أن يؤكده، على هذا الأساس القيمة حتى في الأديان نسبية[37]).
وكذا قوله: إن الإنسانية ليست قيماً غير مثالية ومطلقة وإنما هي قيم نسبية، إلى أن يقول: إن القيمة في الإسلام في جانبها السلبي أو الإيجابي ليست مطلقة، بل هي نسبية).[38].
بل إنه سيؤجل العمل بها لمصلحة ما يتقدمه في سلم الأولوية، فنحن إن رأينا أن الحكم بالصدق يغدو حراماً إن اقترن بأذى المجتمع كلاً أو جزءاً من قبل الطاغوت، فلا يعني ذلك أن قيمة الصدق كانت نسبية، فتغيرت من الحسن إلى القبح هنا، بل لأن حفظ المجتمع من أذى الطاغوت يمثل أولوية تفوق أولوية الحفاظ على الصدق، لذلك تقدمت هذه الأولوية على تلك، من دون أن يلغي قيمة الصدق المناقبية، مثلها مثل من يحمل ذهباً في سفينة تكاد أن تغرق بسبب حملة الذهب، فتعمده إلقاء الذهب في البحر، لا يلغي قيمة الذهب بل لأن حياته أغلى من الذهب، لذلك قدم الأهم على المهم، من دون أن يعني تقديم الأهم انتفاء قيمة المهم، الذي سيعود إلى أهميته حالما يرتفع الطارئ، في حين أن نسبية القيم، تطيح بالقيم حتى وإن ارتفع الطارئ الذي يمثل استنثاءا في الحياة لا واقعاً ثابتاً.
ولهذا نجد النص القرآني يوجد سلّماً في الأولويات لجعله هو الضابطة المعيارية التي تتحكم في تطبيق الأحكام في حال التعارض.
ولكن هذه الضابطة إن لم يتم التعرف عليها بدقة، فإنها ستكون مدعاة لحصول واحدة من نتيجتين على الأقل:
الأولى: أنها ستكون أداة بيد المتسلّطين على عامة المجتمع بأي شكل من أشكال التسلّط فيستغلونها لتحقيق مآربهم وأهدافهم السيئة، كما صوّرهم الباري جلّت قدرته في نفس هذه الآية: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة) أو كما نرى النتيجة في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم)[39] في وقت لا يجد المجتمع أي مجال للتخلص من ربقة ظلمهم إلا بالتحرر من النص نفسه، وفي ذلك من المفسدة العظيمة والشر المطلق ما لا يخفى، ومعرفة تداعيات صراع الكنيسة الأوربية مع الآخر إبان القرون الماضية تكشف حجم الأضرار التي يمكن أن يفرزها مثل هذا الواقع، حيث تصور الأوربيون أن صراعهم مع سلطة الكنيسة هو صراع ديني، لذا خاضوا معاركهم ضد الدين مباشرة!!.
الثانية: أن هذا الكتاب الذي أطلق هذه المتشابهات نزل من عند الله، وفيه من الأسرار التي لا يستطيع بالضرورة نليها وإدراكها كل من رام إليها سبيلاً، فدين الله وعلمه قد أتيح لخاصة أوليائه فقط، وليس لعامة الناس، (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)[40] وإلا لما افترض وجود وحي، وجعل المنزل عليه معصوماً لا يزلّ ولا يخطئ، ويتلقى هذا العلم بصورة استثنائية لعلنا نتلمس بعض آفاقها في ما تعكسه لنا مقدمة سورة النجم (والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحى يوحى . علمه شديد القوى . ذو مرة فاستوى. وهو بالأفق الأعلى. ثم دنا فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدنى. فأوحى إلى عبده ما أوحى. ما كذب الفؤاد ما رأى. أفتمارونه على ما يرى. ولقد رآه نزلة أخرى. عند سدرة المنتهى. عندها جنة المأوى . إذ يغشى السدرة ما يغشى . ما زاغ البصر وما طغى. لقد رأى من آيات ربه الكبرى) ولهذا فإن هذه الأسرار إن تصدّى لحلّها من لا أهلية له في هذا المجال فإن العاقبة الحتمية لعملية ابتغاء التأويل بهذه الصورة ستكون زيغا عن الهدى، وضياعاً عن الطريق لأن لعملية التأويل المطلوبة جهة محددة لم يفسح المجال لغيرها في فك أسرار هذه الكتاب وفق ما تبينه الآية الكريمة: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم)[41].
وترينا الصورة التي تمخضت عنها مأساة السقيفة من ضلال الناس بعيداً عن الدين، وإذا بالرسالة التي بعثت هدى للعالمين سرعان ما غدت ملهاة بيد من لا خبرة له بعلم، ولا سابقة له في فهم، وليس أدل على ذلك من المهازل الدينية والسياسية التي ارتكبت في زمن الخليفة الأول كالحادثة المفجعة التي تمخضت عنها شهادة الزهراء البتول (عليها السلام) بعد غصب حقوقها المادية في فدك، والوجدانية في حقها بالبكاء على أبيها رسول الله (ص) فضلاً عن الدينية بالحفاظ على إمامة الناس في الموضع الذي وضعه الرسول الأكرم (صلوات الله عليه وآله)، وكذا السياسية بأخذ مشورتها على الأقل فيمن سيخلف الرسول الأعظم، ناهيك عن سائر مآسي أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، والجريمة النكراء بحق الصحابي الجليل مالك بن نويرة، واغتيال سعد بن عبادة، وحرق الفجاءة السلمي، وعشرات غيرها!!.
ب ـ مثلما رأينا أن الضابطة التي تحكم الثبات والتغيير في التشريع هي النص، فمن البداهة بمكان أن يكون مصدر تشخيص التغير والثبات، ومحل الحسم في خصوصيات التزاحم بينهما هو المؤتمن على هذا النص، لا أي أحد من الناس، ففي وقت حذرنا الله جل وعلا من خطورة التأويل لأنها تكتنف الوقوع في الفتنة، وأوضح لنا أن عملية التأويل هذه في أحسن صورها ستكون زيغاً عن الطريق وإن لم تقترن بفساد النوايا، وضرب لنا مثلا في كيفية انتهاب الكثير من الأحبار والرهبان لمصالح العباد وعبثهم بدين الله، بل أوضح لنا أن حتى من حظي بكرامات الله لم يكن بمنأى من الوقوع في مخاطر أهواء النفس وشهواتها كما في قصة بلعم بن باعوراء (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين)[42].
ولهذا فمن العبث بمكان الحديث عن ضابطة واقعية للتأويل بمعزل عن من اختصه الله لعلمه وأتمنه على وحيه، ولهذا شخّص الله هذه الحقيقة بصورة قاطعة لا مجال لأي لبس فيها (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب).
وعليه فإن تشخيص الثبات والتغير في الشريعة إنما هو من اختصاص النص الإلهي وحده والذي يمثله في عرفنا ـ نحن الإمامية ـ الكتاب الكريم كنص مكتوب، والسنة المعظمة للمعصوم (صلوات الله عليه) كقول وفعل وتقرير له (صلوات الله عليه)، وأي دعوى للخروج بهذا الفهم عن هذه الدائرة تمثل معلماً أساسيا من معالم الانحراف عن إطار هذا النص.
----------------
[25] - قد يعمد بعض المفكرين إلى استخدام مصطلح التحرك بدلاً من التحول في أدبياتهم ويريد بها نفس معنى التحول.
[26] - من يتأمل بدقة فسيجد بوضوح أن واقع هذه الفكرة ـ أي عدم وجود ثوابت معيارية وفكرية ـ بحد ذاتها تفند مزاعم هذا الاتجاه، فإن كانت هذه الفكرة راسخة بحيث أنهم يرفضون زعزعتها، فلقد حولوها إلى ثابت فناقضوا كلامهم عندئذ، وإن لم تكن ثابتة وكانت قابلة للتحول فيمكن عندئذ القول بوجود ضدها، فتتحول عندئذ إلى صف القائلين بوجود ثوابت في المعايير والمفاهيم.
[27] - وإن كان البعض منها قد يقف موقفا مخالفاً من فكرة ثبات المفاهيم ولكن التدقيق في المعطيات المترتبة على هذه المواقف تجعلنا نشك في دقة هذه المخالفة وموضوعيتها.
[28] - كنا قد فصلنا القول عن ذلك في بحثنا (غير مطبوع) الصراع الاجتماعي في