المحكم والمتشابه من المباحث الاساسية في علوم القرآن هو مبحث المحكم والمتشابه. والمحكموالمتشابه هما مصطلحان قرآنيان، استعملهما القرآن الكريم وعرف ان آياته فيهاالمحكم والمتشابه.
وتعني كلمة المحكم في اللغة المتقن الذى لا اضطراب فيه ولا اختلاف. ((ومنه حديثصفة القرآن (وهو الذكر الحكيم) اي الحاكم لكم، او هو المحكم الذي منه حديث ابنعباس: قرات المحكم على عهد رسول اللّه، يريد المفصل من القرآن، لانه لم ينسخ منهشيء، وقيل: ما لم يكن متشابها، لانه احكم بيانه بنفسه، ولم يفتقر الى غيره»((266)).
عرف العلماء المختصون بالتفسير والدراسات القرآنية المحكم والمتشابه بتعاريفمختلفة، وحددوا معناهما، فكانت هناك اتجاهات وآراء في تحديد وفهم معنىالمحكم والمتشابه.
وفيما يلي نورد عددا من تلك التعاريف:
عرف الراغب الاصفهاني المحكم بقوله: ((ما لا يعرض فيه شبهة من حيث اللفظ، ولامن حيث المعنى»((267)).
ونقل الحافظ جلال الدين السيوطي تعاريف عديدة للمحكم والمتشابه نذكر منها: «المحكم ما عرف المراد منه، اما بالظهور، واما بالتاويل، والمتشابه ما استاثر اللّه بعلمه،كقيام الساعة، وخروج الدجال والحروف المقطعة في اوائل السور»((268)). وقيل: «المحكم ما لا يحتمل من التاويل الا وجها واحدا، والمتشابه ما احتملاوجها»((269)).
ونقل عن عبد بن حميد عن الضحاك: «المحكمات ما لم ينسخ منه، والمتشابهات ما قدنسخ»((270)).
وروي عن عكرمة وقتادة وغيرهما: «ان المحكم الذي يعمل به، والمتشابه الذي يؤمنبه، ولا يعمل به»((271)).
وعرف الفقيه السيد محمد باقر الصدر المحكم والمتشابه بقوله: «فالمحكم من الاياتما يدل على مفهوم معين لانجد صعوبة، او ترددا في تجسيد صورته، او تشخيصه فيمصداق معين. والمتشابهما يدل على مفهوم معين تختلط علينا صورته الواقعية ومصداقه الخارجي»((272)).
وعرف الفخر الرازي المحكم والمتشابه بقوله: «...ان اللفظ اما ان يكون نصا، اوظاهرا، او مؤولا، او مشتركا، او مجملا».
اما النص والظاهر فيشتركان في حصول الترجيح الا ان النص راجح مانع عن الغير.والظاهر راجح غير مانع من الغير، فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمحكم.
واما المجمل والمؤول فهما مشتركان في ان دلالة اللفظ عليه غير راجحة. وان لم يكنراجحا لكنه غير مرجوح. والمؤول مع انه غير راجح فهو مرجوح لا بحسب الدليلالمنفرد. فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمتشابه، لان عدم الفهم حاصل فيالقسمين جميعا...»((273)).
وورد عن الامام جعفر الصادق(ع): «ان القرآن محكم ومتشابه، فاما المحكم فنؤمنبه، ونعمل به، وندين به، واما المتشابه فنؤمن به، ولا نعمل به، وهو قول اللّه عزوجلواما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه...)...».
وورد عن ائمة اهل البيت(ع) ايضا: «من رد متشابه القرآن الى محكمه هدي الىصراط مستقيم»((274)).
واستعمل القرآن الكريم وصف (المحكم والمتشابه) لكل ما ورد فيه، فهو:
1- وصف آياته كلها بانها محكمة، فقال تعالى: (الر # كتاب اءحكمت آياته...).
ومعنى الاحكام الوارد في هذه الاية وامثالها هو الضبط والاتقان، فلا شيء في آيالقرآن غير محكم في لغته واسلوبه وبيانه ودقة معانيه، وانسجامه مع غيره من الايات،وعدم تناقضه معها.
(لو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا). (صنع اللّه الذي اتقن كل شيء...).
2- وصف آياته كلها بالمتشابه، جاء ذلك بقوله تعالى (اللّه نزل احسن الحديث كتابامتشابها)((275)).
ويقصد بالتشابه هنا التماثل في الاتقان والبلاغة والاهداف والاتساق.
3- وصف القرآن آياته بان فيها المحكم والمتشابه، بالمعنى الاصطلاحي الذي حددهالعلماء. جاء هذا الوصف في قوله تعالى:
(هو الذي انزل عليك الكتاب منه آياتمحكمات هن اءم الكتاب واءخر متشابهات فاما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابهمنه ابتغاء الفتنة وابتغاء تاويله وما يعلم تاويله الا اللّه والراسخون في العلم يقولونآمنا به كل من عند ربنا وما يذكر الا اولوا الالباب)((276)).
ومن خلال تعاريف العلماء ودراساتهم للمحكم والمتشابه نعرف دلالة هذه الاية،وماذا يعني المحكم والمتشابه الواردان فيها؟ ولماذا كانت هناك آيات متشابهة، ولمتكن جميعها محكمة بهذا المعنى؟ لماذا المتشابه في القرآن:
اتضح لنا ان القرآن كله كتاب محكم في المبنى والمعنى، في الشكل والمضمون، سواءما سمي منه محكما، او ما اطلق عليه اسم المتشابه. وعرفنا المقصود بالمتشابه بانهالاي الذي يصعب تشخيص مصداقه في العالم الخارجي، كما يذهب الشهيد الصدر،رضوان اللّه عليه الى ذلك، ومفسرون آخرون.
وقد يورد البعض سؤالا لماذا كان المتشابه في القرآن ؟.. اليس القرآن كتاب بيانوهداية للبشرية؟ او ليس المفروض ان يكون كله محكما لاتشابه فيه؟ فهو صادر عنخالق الوجود، وهو القادر العليم.
ويجيب العلماء الباحثون على هذا الاشكال بان الداعي لوجود المتشابه في القرآن، هومستوى قدرة الانسان على فهم الحقائق التي تحدث عنها القرآن في هذه الايات،وادراكها اولا.
وحقيقة القضايا التي تحدث عنها في تلك المواضع ثانيا.
فمثلا تحدث القرآن عن صفات اللّه تعالى، وعن عوالم الغيب المجردة عن الحسيات،وعالم الممكنات المعهود لدى الانسان، فعبر عنها باللفظ الذي يقرب الفهم الى ذهنه،فاستعمل كلمة (العرش) و (الكرسي) و (اليد) و (الغضب) و (المكر) و (السخط) و(الرضا) عند وصفه للخالق سبحانه، او التعريف بملكه وسلطانه، لتقريب المعانيوالحقائق الخارجية الى ذهن الانسان.
كما ان من اسباب وجود المتشابه في القرآن، هو دعوة العقل البشري الى التحريوالبحث، وبلورة الفهم المختلط، ولاختبار الانسان في عقيدته وايمانه، فهو يواجهالمحكم والمتشابه، وهو مدعو الى فهم المتشابه على ضوء المحكم لاسباب لغوية،كالمشتركات اللفظية، وكاللجوء الى استعمال المجاز..
وثبت ائمة اهل البيت(ع) المنهج السليم لفهم المتشابه، فقد ورد عن الامامالصادق(ع): «من رد متشابه القرآن الى محكمه فقد هدي الى صراط مستقيم».
فمن المحكمات مثلا قوله تعالى: (ليس كمثله شيء...) وقوله تعالى: (لا تدركهالابصار وهو يدرك الابصار).
فيرد المتشابه في صفات اللّه تعالى اليها كقوله تعالى: (يد اللّه فوق ايديهم) وقوله: (وسع كرسيه السماوات والارض).
وقوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة). فتفسير كلمة (ناظرة) بالراجيةالمنتظرة للعطاء بعد ردها الى قوله تعالى: (لاتدركه الابصار وهو يدرك الابصار).
ينهي ماقد يتوهمه البعض من التجسيم ورؤية اللّه بالبصر البشري.
علاقة السنة بالقرآن السنة النبوية: «هي اسم يطلق على كل ما صدر عن النبي من قول او فعل اوتقرير»((277)).
ان من الاسس الاعتقادية التي اوضحها القرآن للبشرية ان كل ما صدر عن النبي(ص)هو عن اللّه سبحانه، فسنة الرسول(ص) هي متلقاة من اللّه جل ثناؤه، متلقاة بمعناهادون لفظها، فهي وحي كالقرآن. غير ان القرآن موحى بلفظه ونظمه ومعناه، وهيموحاة بمعناها.
جاء هذا البيان في قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى × ان هو الا وحي يوحى × علمه شديد القوى) وفي قوله تعالى: (ماآتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وفي قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول اللّه اسوة حسنة).
وواضح ان الرسول الكريم هو المخاطب بالقرآن، وهو العالم بما حوى من علموشريعة وهدي، والعارف بتفسيره وتاويله، والمكلف ببيان مجملاته وغوامضه، وماانطوت عليه اعماقه وايحاءاته.
نقرا تلك الحقيقة في قوله سبحانه:
(وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم) (وما نزلنا عليك الكتاب الا لتبين لهم الذي فيه يختلفون).
ولقد قام الرسول(ص) باداء هذه المهمة، وبين للناس ما بلغ به من خلال القولوالفعل والتقرير.
فقد فسر الرسول الكريم محمد(ص) القرآن بقوله وفعله وتقريره.
ولقد استقرا العلماء موارد علاقة السنة بالكتاب وبحثوها بحثا مفصلا في علم اصول الفقه، كجزء من منهج الاستنباط من الكتاب، وهي:
1- ان السنة تبين مجمل الكتاب.
2- ان السنة خصصت عموم الكتاب.
3- ان السنة قيدت مطلق الكتاب.
4- ان السنة لها قوة نسخ الكتاب.
التطبيق:
1- السنة تبين مجمل الكتاب: من الامور الواضحة لدى الجميع ان الكثير مما جاء فيالقرآن من الصلاة والزكاة والصوم والحج... الخ جاء مجملا غير مفصل.
وقد قام الرسول الكريم(ص) ببيان تلك المجملات وتفصيلها، فعلم الناس كيفيةالصلاة والصوم والزكاة والحج بكامل تفاصيلهامن خلال البيان اللفظي والتطبيقي الذي مارسه بسيرته العملية، وبذا بين للامة تفاصيلالقضايا المجملة.
عرف المحقق الحلي المجمل بانه: ((ما افاد شيئا من جملة اشياء، هو معين في نفسه، واللفظ لا يعينه»((278)).
ثم قال: (والضابط فيه: ان كل ما لا يستقل بنفسه في معرفة المراد به فهومجمل)((279)).
وعرفه الفقيه الراحل الشيخ محمد رضا المظفر بقوله: «عرفوا المجل اصطلاحا: بانه مالم تتضح دلالته، ويقابله المبين»((280)).
ثم قال: «والمقصود من المجمل على كل حال، ما جهل فيه مراد المتكلم ومقصوده اذاكان لفظا، وما جهل فيه مراد الفاعل ومقصوده اذا كان فعلا...» ومن ثم قال: «ومن هذا البيان نعرف ان المجمل يشمل اللفظ والفعل» ثم استرسل في الحديث عن الامثلةالمجملة من الايات فاورد قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما) ثم بينان لفظ اليد المقصود قطعها هنا هي من المجملات.
وللايضاح نختصر هذا البيان بين يدي القارئ: قال: «واما من ناحية اليد فان الظاهر ان اللفظ لو خلي ونفسه يستفاد منه ارادة تمام العضو المخصوص، ولكنه غير مراد يقينافي الاية فيتردد بين المراتبالعديدة من الاصابع الى المرفق، لانه يعد فرض عدم ارادة تمام العضو لم تكن ظاهرةفي واحدة من هذه المراتب. فتكون الاية مجملة في نفسها من هذه الناحية. وان كانتمبينة بالاحاديث عن آل البيت(ع) الكاشفة عن ارادة القطع من اصولالاصابع»((281)).
وهكذا تبين السنة مجمل الكتاب، وتوضح مراد القرآن من اليد في هذه الاية.
2- ان السنة تخصص عموم الكتاب: عرف المحقق الحلي العام بقوله: «هوالمستغرق لجميع ما يصلح له اذا افاد في الكل فائدة واحدة»((282)). ان الاحكام الشرعية والقوانين الاسلامية حسب متعلقاتها والقضايا التي تنظمها تنقسمالى قسمين: احكام عامة، واحكام خاصة. فكثيرا ما تاتي الاحكام بصيغة عامة، ثم ياتيالتخصيص، وهو اخراج مساحة محدودة من تلك المساحة الكلية بتشريع احكامخاصة بها دون بقية افراد ذلك العموم، ونجد ذلك واضحا في الاحكام التي جاء بهاالقرآن الكريم. فقد جاء باحكام عامة تشمل الافراد المتماثلة، ثم اخرج بعض الافرادواستثناها من الحكم العام بحكم آخر.
ووفق منطق التشريع وعرفه فان الخاص يقدم على العام، اذا ماتعارضا. اذ يعتبرالخاص قرينة مفسرة لارادة المشرع، ويخصص القرآن بالقرآن، كما يخصص بالسنة،ومثال ذلك عموم قوله تعالى: (فاذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) فخصصبقوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون).
وتخصيص الكتاب بالسنة هو مما اجمع عليه المسلمون بمختلف مذاهبهموآرائهم.
ومن الامثة على عموم القرآن المخصص بالسنة هو قوله تعالى:
(يوصيكم اللّه فياولادكم للذكر مثل حظ الانثيين...)((283)).
فان هذه الاية شرعت حكما عاما ينص على ان الابناء يرثون الاباء بصورة عامة غير انالسنة النبوية اخرجت القاتل من هذا العموم بقول الرسول الكريم(ص) «القاتل لايرث»((284)).
وعمم القرآن حكم تحريم الربا بقوله تعالى: (واحل اللّه البيع وحرم الربا) وقامالرسول بتخصيص هذا العموم بقوله(ص):
«ليس بيننا وبين اهل حربنا ربا، ناخذمنهم الف الف درهم بدرهم، وناخذ منهم ولا نعطيهم»((285)).
وهكذا خصصت السنة عموم الكتاب، والامثلة على ذلك كثيرة، وهذا المبحث هو منالمباحث المهمة في علم اصول الفقه، وللعلماء المختصين دراسات تفصيلية فيذلك.
كما يذهب الشيعة الامامية الى تخصيص الكتاب بالسنة، يذهب اصحاب المذاهبالاخرى الى ذلك ايضا، نذكر مثالا على ذلك ما قاله الامدي الحنبلي: (يجوز تخصيصعموم القرآن بالسنة)((286)). ويستدل على ذلك بقوله: (وخصوا قوله تعالى (يوصيكم اللّه في اولادكم)بقوله(ص) «لا يرث القاتل، ولا يرث الكافر من المسلم، ولا المسلم منالكافر»((287)).
التخصيص بخبر الاحاد: قسم العلماء الروايات الصادرة عن الرسول(ص)والائمة(ع) حسب سندها الى رواية آحاد، واخرى متواترة، وانتهوا في هذا التقسيمالى ان المتواتر يفيد القطع في حين خبر الاحاد يفيد الظن، ثم اثيرت مشكلة علمية،وهي هل يمكن ان يخصص عموم القرآن بالسنة المروية عن طريق الاحاد؟ فالعاميخصص تارة بدليل قطعي، واخرى يرد دليل ظني من السنة يفيد تخصيص العام. وهوخبر الاحاد فهل يخصص العام القرآني بخبر الاحاد الثقة. اختلف العلماء في امكانتخصيص الكتاب بخبر الاحاد.
فذهب المشهور، كما افاد السيد ابو القاسم الخوئي، الى جواز تخصيص عموم الكتاببخبر الاحاد.
وخالف فيه فريق من علماء اهل السنة، فذهب فريق منهم الى منعه مطلقا، وذهبفريق آخر الى اشتراط جواز التخصيص بان يكون العام قد خص بدليل قطعي من قبل،وذهب آخرون الى اشتراط ان يكون العام قد خص بدليل منفصل((288)).
ومن جملة ما اشكل به على عدم جواز تخصيص العام بخبر الاحاد ان خبر الاحاد ظنيالصدور، والقرآن قطعي الصدور، وان الاخبار تعرض على القرآن، فما لم يوافق منهاالقرآن تسقط حجيته، فكيف تقبل معارضة خبر الاحاد المخصص لعموم القرآن،فيقدم عليه كقرينة مفسرة، فاجاب المجوزون ان التعارض هو بين خبر الاحاد الظني،وبين ظواهر الكتاب، والظواهر هي ظنية بحد ذاتها. وبالتالي فان التعارض يكون بيندلالة الكتاب الظنية الموحي بها ظاهر اللفظ، وبين دليل ظني ثبتت حجيته بدليلقطعي ما لم يكن هناك مانع يمنع من العمل به، وان الدليل المخصص لعموم الكتاب لايعني مخالفة الكتاب، بل هو قرينة لايضاح المعنى المقصود من الدليل العام((289)).
وذكر السيد ابو القاسم الخوئي وهو من اعاظم علماء الشيعة الامامية المعاصرينوصاحب مدرسة وآراء اصولية ان ما يذهب اليه المشهور هو المختار (جوازتخصيص عموم الكتاب بخبر الاحاد)((290)). 3- السنة تقيد مطلق الكتاب: عرف الفقيه الاصولي الشهيد الصدر الاطلاق والتقييد بقوله: «الاطلاق يقابل التقييد، فان تصورت معنى ولاحظت فيه وصفا خاصا او حالةمعينة، كان ذلك تقييدا، وان تصورته بدون ان تلحظ معه اي وصف او حالة اخرى كانذلك اطلاقا، فالتقييد اذن هو لحاظ خصوصية زائدة في الطبيعة، والاطلاق عدم لحاظالخصوصية الزائدة»((291)).
وواضح ان المعاني القرآنية كما ورد بعضها مطلقا، ورد بعضها مقيدا.. وكما تقيد الايةاطلاق آية اخرى، فان السنة تقيد اطلاق الايات ايضا، كما تخصص عموماتها، والرسول(ص) عندما يخصص ويقيد انما هو مبين لمحتوى الكتاب، ومبلغ عن اللّهتعالى.
ويبين العلماء المختصون ان خبر الاحاد المستجمع لشرائط الحجية، كما يخصصعموم القرآن، فانه يقيد مطلقه ايضا، ولا يغير هذا التقييد مما يخالف الكتاب، بل هومما يوضح المراد منه.
ذكر ذلك السيد ابو القاسم الخوئي(رحمهاللّه) في كتابه البيان:
«...ان الخبرال#مخصص للكتاب، او المقيد له، حجة في نفسه، ويلزم العمل به الا حين يبتليبالمعارض»((292)).
السنة ونسخ القرآن: قد اتضح لنا مما سبق من البحث معنى النسخ في اللغة والاصطلاح، واتضح ايضا ان القرآن ينسخ بالقرآن. كمابحث العلماء امكانية نسخ القرآن بالسنة، ونريد هنا ان نعرف بهذا الموضوع. وقبلالدخول في التعريف نوضح ان الناسخ لكي يكون حجة يجب ان يكون قطعيا، اذ لاحجة فيه ان كان ظنيا، كما يقول العلماء، والاصل كما يجمع الفقهاء من مختلفالمذاهب، هو عدم النسخ عند الشك في النسخ.
واختلف علماء الاسلام في جواز نسخ القرآن بالسنة، فذهب بعضهم الى امكان نسخالكتاب بالسنة، وذهب آخرون الى عدم جوازه، وفيما يلي ننقل بعضا من هذه الاراء.
قال الزركشي: «واختلف في نسخ الكتاب بالسنة»، قال ابن عطية: مذاق الامة علىالجواز، وذلك موجود في قوله(ص):
«لا وصية لوارث» وابى الشافعي ذلك. والحجةعليه من قوله في اسقاط الجلد في حد الزنا عن الثيب الذي رجم، فانه لا مسقط لذلكالا السنة، فعل النبي(ص).
قلنا: «اما آية الوصية فقد ذكرنا ان ناسخها القرآن، واما ما نقله عن الشافعي فقد اشتهرذلك لظاهر لفظ ذكره (الرسالة)، وانما مراد الشافعي ان الكتاب والسنة لا يوجدانمختلفين الا ومع احدهما مثله ناسخ له، وهذا تعظيم لقدر الوجهين وابانة تعاضدهماوتوافقهما، وكل من تكلم على هذه المسالة لم يفهم مراده...»((293)). وتذهب الشيعة الامامية الى جواز نسخ القرآن بالسنة المتواترة او الاجماع القطعيالكاشف عن صدور النسخ عن المعصوم(ع) وهذا القسم من النسخ لا اشكال فيه عقلاونقلا((294)).
وجدير ذكره ان المعصوم المقصود هنا هو الرسول الكريم محمد(ص) فالسنة النبويةهي التي لها قوة نسخ القرآن.
وقد مر بنا قول الفقيه الشهيد الصدر: «ان تغيير احكام الشريعة عن طريق النسخ يكونايضا احد العوامل المستوجبة للتعارض بين الاحاديث والنصوص، ولكن التعارضعلى اساس هذا العامل تنحصر دائرته في النصوص الصادرة عن النبي(ص) ولا تعمالنصوص الصادرة عن الائمة(ع)، لما ثبت في محله من انتهاء عصر التشريع بانتهاءعصر النبي(ص) وان الاحاديث الصادرة عن الائمة المعصومين(ع) ليست الا بيانالما شرعه النبي(ص) من الاحكام وتفاصيلها»((295)).
ومما ينبغي ايضاحه هنا هو ان الشيعة الامامية لم يثبت لديهم حكم قرآني منسوخبصورة فعلية بالسنة النبوية. وانما قالوا بامكان نسخ الكتاب بالسنة فقط، ذلك لان مايفعله الرسول(ص) هو بامر اللّه تعالى وصادر عنه سبحانه.
ملحق منهج المعرفة في القرآن الكريم من قراءة وتحليل المعرفة الانسانية، ونظم التفكير، ومناهج البحث في مجال الطبيعةوالفكر والمجتمع والعقيدة والشريعة التي افرزها الفكر الاسلامي نستنتج ان منهجالبحث والتفكير ومصدر المعرفة وادوات الفهم والاستنباط هي المسؤولة بشكلاساس مسؤولية علمية عن تعدد الاراء والافكار والمفاهيم في اطار المعرفة الاسلاميةبالاضافة الى قصور الباحث العلمي، وهوى النفس، وتدخل العامل الذاتي في البحثالموضوعي، وتلك العوامل مجتمعة هي المسؤولة عن مستوى نتائج البحث من حيثالصحة والاصالة والخصوبة والنضج... الخ.
ونحن عندما ندرس البنية المنهجية للفكر الاسلامي نجد اثر المنهج، واضحا في كلحقل من حقول المعرفة.
لذا نجد اثر هذا المنتظم المنهجي واضحا في بنية المعرفة وصياغة شخصيتها، وتقريرنتائج العمل العقلي فيها. فما من مدرسة فكرية الا وانطلقت من تحديد مصادرالمعرفة اولا، ومن تثبيت اساس للتفكير، ومنهج متميز في البحث وتقرير النتائج ثانيا،وبذلك يتحدد عمقها وتتشخص اصالتها وانتماؤها.
ومن الواضح تاريخيا ان الفكر الاسلامي قد تفاعل مع افكار الشعوب والامم الاخرىمن خلال الاختلاط والفتوحات والترجمة، فتفاعل مع الفكر اليوناني والفارسيوالهندي والصيني واليهودي والمسيحي المحرفين، فافرز هذا التفاعل نتائج انحرافيةبالاضافة الى محاولات التحريف الداخلية التي نشات في داخل المجتمع الاسلاميواثر ذلك كله في طريقة التفكير والمناهج المتعددة لدى كثير من اصحاب النظرياتوالفلسفات والاتجاهات الفكرية في المجتمع الاسلامي، لاسيما اصحاب المناهجالفلسفية والكلامية والسلوكية.
وكما اثر الفكر الاجنبي الوافد اثره في الاتجاه المنهجي، اثر القصور العلمي وضيقالافق الفكري في افراز مناهج وطرق تفكير عقيمة، وغير منتجة احيانا. وقاصرة عنفهم الرسالة، وتطوير الفكر والبحث العلمي، وتنمية العلم والمعرفة في مجالالطبيعة، والمجتمع، والشريعة، ونظم التفكير احيانا اخرى.
وفي خضم هذا الصراع المنهجي، ونظم التفكير، كانت مدرسة ائمة اهل البيت(ع) تواصل جهادها الفكري والسياسي لتثبيت معالم منهج البحث والتفكير، والفهمالاسلامي، للنص والمحتوى، وطريقة الحياة، كما تلقاه ائمة اهل البيت(ع) من كتاباللّه، وسنة نبيه الكريم(ص)، فاكتسب هذا المنهج تاصيلا قرآنيا، وميزة علمية واقعية،فكان منهجا يحترم العقل، ويلتزم بقواعد الشرع، ويسعى لتطوير الحياة العلميةبشقيها المادي والانساني.
المصادر الاولى للمعرفة الانسانية:
ومن دراسة وتحليل المعرفة البشرية المعقدة بنظرياتها وقوانينها ومسلماتها، نجدالفكر الاسلامي يرجعها الى مسلمات اساسية قد حصل عليها الفكر الانساني منمصادر اساسية للمعرفة فشكلت تلك الاسس والمسلمات بنية العقل والتفكيرالمسلم، واعطته ميزته وصفته الخاصة به.
والذي سنعرضه هنا هو رؤية مدرسة اهل البيت(ع) للمعرفة الانسانية، مستفادة منالمنهج القرآني، والذي اختلفت فيه مع مدرسة الاشاعرة التي تبنت معظم المذاهبالفقهية الاسلامية الاخرى آراءها في مجال الفكر والعقيدة، والمسلمات الكبرى فيصياغة العقل المسلم، والتفكير الاسلامي.
وقد بنى الفهم الامامي نظريته في المعرفة على اساس واقعي متسق مع منطق القرآن،فاعطت هذه النظرية العقل دوره الفاعل، كما اعطت المسلمات الواقعية في عالمالوجود قيمتها، واثرها في تفسير حوادث الطبيعة، والنفس، والمجتمع، والتاريخ.
فقد بنى هذا الفكر النظرية الاسلامية في المعرفة على اساس تشخيصه لمصادرالمعرفة الاساسية للادراك البشري الذي انتهى الى الايمان بان الحس هو مصدرالمعرفة الاولى، وان المعلومات الحسية الوافدة على العقل البشري من العالم المحيطبه عن طريق الحواس يتناولها العقل فيدركها، ويستنتج منها، ويبني عليها.
ولنقرا افكار العلا مة الحلي، وهو يثبت اصول المعرفة الانسانية التي ارجعها الىالمعلومات الحسية، قال(رحمهاللّه): «اعلم ان اللّه خلق النفس الانسانية في مبدافطرتها خالية من جميع العلوم بالضرورة، قابلة لها بالضرورة((296))، وذلك مشاهدفي حال الاطفال. ثم ان اللّه تعالى خلق للنفس آلات بها يحصل الادراك، وهي القوىالحساسة، فيحس الطفل في اول ولادته بحس ولمس مايدركه من المعلومات، ويميزبواسطة الادراك البصري، على سبيل التدريج بين ابويه وغيرهما وكذلك يتدرج فيالطعوم وباقي المحسوسات الى ادراك مايتعلق بتلك الالات، ثم يزداد تفطنه فيدركبواسطة احساسه بالامور الجزئية، الامور الكلية المشاركة والمباينة، ويعقل الامورالكلية الضرورية بواسطة ادراك المحسوسات الجزئية، ثم اذا استكمل الاستدلالوتفطن بمواضع الجدال، ادرك بواسطة العلوم الضرورية، العلوم الكسبية.
فقد ظهر من هذا ان العلوم الكسبية فرع على العلوم الضرورية الكلية، والعلومالضرورية الكلية فرع على المحسوسات الجزئية، فالمحسوسات اذن هي اصولالاعتقادات، ولا يصح الفرع الا بعد صحة اصله، فالطعن في الاصل طعن فيالفرع...»((297)).
ويتحدث الشهيد الصدر عن هذه النظرية بشيء من الايضاح والتفصيل فيقول متحدثاعن نظرية الفلاسفة الاسلاميين (نظرية الانتزاع):
«وتتلخص هذه النظرية في تقسيم التصورات الذهنية الى قسمين هما: تصوراتاولية، وتصورات ثانوية، فالتصورات الاولية هي الاساس التصوري للذهن البشري،وتتولد هذه التصورات من الاحساس بمحتوياتها بصورة مباشرة، فنحن نتصورالحرارة لاننا ندركها باللمس، ونتصور اللون لاننا ادركناه بالبصر، ونتصور الحلاوةلاننا ادركناها بالذوق، ونتصور الرائحة لاننا ادركناها بالشم.
وهكذا جميع المعاني التي ندركها بحواسنا، فان الاحساس بكل واحد منها هو السببفي تصوره ووجود فكرة عنه في الذهن البشري، وتتشكل من هذه المعاني القاعدة الاولية للتصور، وينشي الذهن بناء على هذه القاعدة التصورات الثانوية، فيبدا بذلكدور الابتكار والانشاء.
وهو الذي نصطلح عليه بلفظ (الانتزاع) فيولد في الذهن مفاهيم جديدة من تلكالمعاني الاولية.
وهذه المعاني الجديدة خارجة عن طاقة الحس، وان كانت مستنبطة ومستخرجة منالمعاني التي يقدمها الحس الى الذهن والفكر.
وهذه النظرية تتسق مع البرهان والتجربة، ويمكنها ان تفسر جميع المفرداتالتصورية تفسيرا متماسكا، فعلى ضوء هذه النظرية نستطيع ان نفهم كيف انبثقتمفاهيم العلة والمعلول والجوهر والعرض والوجود والوحدة في الذهن البشري، انهامفاهيم انتزاعية يبتكرها الذهن على ضوء المعاني المحسوسة، فنحن نحس مثلابغليان الماء حين تبلغ درجة حرارته ماة، وقد يتكرر احساسنا بهاتين الظاهرتينظاهرة الغليان والحرارة آلاف المرات، ولا نحس بعلية الحرارة للغليان مطلقا. وانماالذهن هو الذي ينتزع مفهوم العلية من الظاهرتين اللتين يقدمها الحس الى مجالالتصور»((298)).
وهكذا تنتهي هذه النظرية الى ان هناك:
1- معارف اولية (حسية).
2- معارف عقلية انتزاعية((299)).
واذا كان هذا تحليل ودراسة الفكر الاسلامي وفق الفهم العقلي والفلسفي، فلنبحثعن اصوله القرآنية، وجذوره في معارف الوحي، لنعرف الاصالة والمنهجية القرآنية في هذه النظرية.
واذا شئنا تاصيل النظرية فسنجد انها اسست، واستمدت مقوماتها منالاية الكريمة:
(واللّه اخرجكم من بطون امهاتكم لاتعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والافئدةلعلكم تشكرون)((300)) فهذه الاية هي الاساس العلمي لهذه النظرية، والمؤيدة للمصادر الحسية للمعرفةولاكتشاف العقل وتشخيصه للاسس الاولى للمعرفة البشرية.
واذن فلنقرا تفاسير هذه الاية كما بينها اساطين الفكر الامامي.
قال الشيخ الطوسي مفسرا هذه الاية: «تفضل عليكم بالحواس الصحيحة التي هيطرق العلم بالمدركات. وجعل لكم قلوبا تفقهون بها، لانها محل المعارف»((301)).
وفسر الشيخ محمد رضا القمي المشهدي، وهو من علماء القرن الثاني عشر الهجريهذه الاية بقوله: «...اداة تتعلمون فتحسون بمشاعركم جزئيات الاشياء فتدركونها، ثمتتنبهون بقلوبكم لمشاركات ومباينات بينها بتكرير الاحساس حتى تتحصل لكمالعلوم البديهية، وتتمكنوا من تحصيل المعارف الكسبية بالنظر فيها»((302)).
اما المفسر الفيلسوف العلا مة الطباطبائي فيقول في تفسير هذه الاية: «والاية تؤيدماذهب اليه علماء النفس من ان لوح النفس خالية عن المعلومات اول تكونها، ثمتنتقش فيها شيئا فشيئا كما قيل وهذا في غير علم النفس بذاتها... ثم قال:
وقولهوجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون...) اشارة الى مبادئ العلمالذي انعم بها على الانسان، فمبدا التصور هو الحس. والعمدة فيه السمع والبصر، وانكان هناك غيرهما من اللمس والذوق والشم، ومبدا الفكر هو الفؤاد((303))»((304)).
وهكذا تتضح اسس نظرية المعرفة في الفكر الاسلامي كما فهمتها مدرسة اهلالبيت(ع) بانها نظرية مرتكزة على اساس قرآني.
فقد آمنت هذه المدرسة كما صورها العلا مة الحلي والشهيد الصدر وجمع منالمفسرين باصالة المعرفة الحسية لياتي دور العقل فينتزع من المعلومات الجزئيةالحسية، المعارف الضرورية الكلية التي تسلك كاساس للبحث والتفكير في العلومالتحصيلية كلها، وبمختلف مباحثها وموضوعاتها.
وبذا اكتسب منهج البحث الاسلامي قيمته الواقعية والعلمية.
واذا كان المرتكز الاول من مرتكزات نظرية المعرفة هو ان المعارف الحسية هي اصلالمعرفة، وان العقل البشري ينتزع منها المعارف الاخرى، كمبدا العلية الناتج عنعملية الاستقراء في هذا العالم بما يزخر به من الوان الموجودات، فان المرتكز الثانيمن مرتكزات نظرية المعرفة التي آمنت بها مدرسة اهل البيت(ع) واصلتها علىاساس المنهج القرآني هو الايمان بمبدا العلية (العلة الفاعلة والعلة الغائية) في هذاالوجود باسره، فقد آمنت مدرسة اهل البيت بان العالم الطبيعي والفكري والاجتماعيكله خاضع لقانون السبب والنتيجة، او مبدا العلية.
كما ان الوجود باسره قائم علىاساس مبدا العلة والمعلول.
وان هذا المبدا كما يساهم في تشكيل عقل علمي، فانه يقود العقل ايضا الى البحث عنعلل الوجود، وقانون الفكر والطبيعة والمجتمع، ويضفي على البحث والتفكير الصفةالعلمية والواقعية.
ولا تخفى على المفكر والباحث العلمي قيمة هذه النظرية ونتائجها التطبيقية فياكتشاف قوانين الطبيعة، والربط بين التفكير والمعرفة. والايمان بقوانين علمية تسيرحركة التاريخ والمجتمع، وتنظم السلوك وعلاقات الانسان.
ولنقرا ايضاح الشهيد الصدر لمبدا العلية في عالم الفكر والطبيعة والمجتمع، فقدكتب(رحمهاللّه) يقول: «ان من اوليات مايدركه البشر في حياته الاعتيادية مبدا العليةالقائل ان لكل شيء سببا، وهو من المبادئ العقلية الضرورية...»((305)).
ثم يسترسل في شرح هذه النظرية فيوضح عددا من المرتكزات والاستنتاجاتالمرتبطة بمبدا العلية التي تسلك كاساس للعلم والمعرفة البشرية بشتى فروعهافيقول: ((من الضروري ان نشير الى عدة قوانين من المجموعة الفلسفية للعلية التييرتكز عليها العلم، وهي كما يلي:
1- مبدا العلية القائل: ان لكل حادثة سببا.
2- قانون الحتمية القائل: ان كل سبب يولد النتيجة الطبيعية بصورة ضرورية، ولايمكن للنتائج ان تنفصل عن اسبابها.
3- قانون التناسب بين الاسباب والنتائج القائل: ان كل مجموعة متفقة في حقيقتها، منمجاميع الطبيعة يلزم ان تتفق ايضا في الاسباب والنتائج»((306)).
ثم يوضح قيمة مبدا العلية العلمي فيقول: «مبدا العلية هو الركيزة التي عليها جميعمحاولات الاستدلال، في كل مجالات التفكير الانساني، لان الاستدلال على شيء منالاشياء، يعني ان الدليل اذا كان صحيحا، فهو سبب للعلم بالشيء المستدل عليه، فحيننبرهن على حقيقة من الحقائق بتجربة علمية، او بقانون فلسفي، او باحساس بسيط،انما نحاول بذلك ان يكون البرهان علة للعلم بتلك الحقيقة، فلولا مبدا العليةوالحتمية، لما اءتيح لنا ذلك...»((307)) وجدير ذكره ان المذهب الاشعري قد انكر مبدا العلية والسببية في هذا الوجود مسلمابعلة واحدة، وهي اللّه سبحانه. وفسر ظاهرة العلاقة والترابط بين حدوث الاشياءبالعادة ورفض الايمان بمبدا التوالد العلي، ظنا منه ان هذا الايمان يخالف عقيدةالتوحيد، في حين تذهب مدرسة اهل البيت(ع) الى ان الايمان بمبدا تعدد الاسبابوالعلل وتسلسلها دليل آخر على توحيد اللّه وتجلي عظمته، ورجوع الاسباب والعللالى مشيئته وقدرته.
والقرآن الكريم قد ثبت مبدا العلية او السبب والنتيجة كلما تحدث عن الفكر والطبيعةوالمجتمع، بل وعرضها كوحدة سببية يرتبط بعضها ببعض، ويؤثر بعضها في البعضالاخر.
العلية والتفكير:
ففى مجال الفكر تحدث القرآن عن ان التفكير سبب مباشر للمعرفة، وعلة لها. واوضحان العلاقة بين التفكير والمعرفة هي علاقة السبب بالنتيجة.
فقد خاطب العقل والفكر البشري ودعاه الى ان يستقرئ عوالم الطبيعة والحياةليكتشف من خلالها وجود الخالق وعظمة قدرته. كما وجه العقول الى التفكر فيتجارب الامم السابقة ليكتشف العلاقة بين سقوطها واندثار حضارتها وبين الكفروالجريمة والانحراف.
فعلى الصعيد الاول نقرا علية التفكير للعلم والمعرفة، قال تعالى: (ان في خلقالسماوات والارض واختلاف الليل والنهار لايات لاولي الالباب# الذين يذكرون اللّه قياماوقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والارض ربنا ماخلقت هذا باطلاسبحانك فقنا عذاب النار)((308)).
وقال تعالى: (اللّه يتوفى الانفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضىعليها الموت ويرسل الاخرى الى اجل مسمى ان في ذلك لايات لقوميتفكرون)((309)).
وهكذا يوضح القرآن ان التفكير علة وسبب لانتاج المعرفة، فالتفكير في عالم الطبيعةوالانسان (استقراء مظاهر الوجود) يولد الايمان بوجود الخالق، لذا نجد الرسولالكريم(ع) يؤكذ هذه الحقيقة حين قال بعد نزول قوله تعالى: (ان في خلق السماواتوالارض واختلاف الليل والنهار لايات لاولي الالباب...).
قال: «ويل لمن لاكها بين لحييه ثم لم يتدبرها» اي لم يكن من اولي الالباب الذينيستنتجون وجود اللّه من التفكر في خلقه».
وان هذه المعادلة التفكيرية كما هي واضحة تجري على اساس الاختلاف بين موضوعالمقدمة وموضوع النتيجة (الاختلاف بين جنس العلة وجنس المعلول).
فالمقدمة هي مايتوفر من معلومات حسية استقرائية عن هذا الوجود لدى الانسانوالنتيجة هي اكتشاف وجود خالق لهذا العالم.
وهذه المرحلة من التفكير هي المرحلة التي عبر عنها الشهيد السعيد المفكر الاسلاميالكبير السيد محمد باقر الصدر بمرحلة التوالد الذاتي.
في حين نقرا في كتاب اللّه قدرة التفكير البشري على توليد نتائج علمية جديدة منخلال حركته بين المعلوم والمجهول، وقدرته على استنباطها وهي المرحلة التي اطلقعليها الشهيد الصدر اسم مرحلة التوالد الموضوعي للفكر. او المرحلة الاستنباطية منالدليل الاستقرائي.
وقد اوضح المتكلمون الامامية قدرة التفكير على انتاج المعرفة، وان العلاقة بينالتفكير والعلم هي علاقة السبب والنتيجة:
نذكر من هذه الاراء مااورده ابو اسحاق ابراهيم النوبختي صاحب كتاب (الياقوت)الكلامي الشهير.
قال: «والنظر يولد العلم كسائر الاسباب المولدة لمسبباتها».
ثم علق العلا مة الحلي على هذه الراي قائلا: اقول: اختلف الناس في ذلك، فقالتالمعتزلة: النظر الصحيح يولد العلم.
وقال الاشاعرة: ان العلم يحصل عقيبه لمجرد العادة من فعل اللّه تعالى كالعاديات.
وقال ابو بكر الباقلاني، وامام الحرمين الجويني : «ان العلم مايلزم النظر لزوما واجبا،وان لم يتولد عنه»((310)).
وهكذا نجد المدرسة الامامية قد اختلفت مع المدرسة الاشعرية في علية التفكيرللعلم، واسندت نظريتها الى اصول قرآنية.
قانون العلية وتفسير التاريخ والمجتمع:
وكما طبقت مدرسة اهل البيت مبدا قانون العلية على عالم الفكر والمعرفة طبقتهكذلك في مجال حركة التاريخ والمجتمع فمنت بقانون العلية التاريخية والسننالاجتماعية والاسباب في عالم المجتمع، السياسي والاقتصادي والتحول الاجتماعيوالسلوك الشخصي.
ولنقرا قانون العلية والسببية كما اوضحه القرآن وفهمته هذه المدرسة.
قال تعالى: (وان كادوا ليستفزونك من الارض ليخرجوك منها واذا لايلبثون خلافك الا قليلا # سنة من قد ارسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا)((311)).
وقال تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبةالمكذبين)((312)).
وقال تعالى: (ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الادبار ثم لايجدون وليا ولا نصيرا سنة اللّهالتي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة اللّه تبديلا)((313)). وقال تعالى: (ذلك بان اللّه لم يك مغيرا نعمة انعمها على قوم حتى يغيروامابانفسهم).
وهكذا يتحدث القرآن عن القانون التاريخي والاجتماعي او السببية الاجتماعيةوالتاريخية، فيربط بين الكفر باللّه وجرائم الانسان وانهيار الامم والحضاراتوالازمات الاقتصادية والسياسية والاوضاع النفسية... الخ.
فالقرآن يعرضها وحدة قانونية مترابطة.
وللتعرف على ذلك نقرا بيان الشهيد الصدر(رحمهاللّه) وتفسيره لقانون العليةالتاريخية كما اوضحه القرآن الكريم بعد ان استعرض عددا من الايات المتحدثة عنهذا القانون قال:
(من مجموع هذه الايات الكريمة يتبلور المفهوم القرآني الذياوضحناه، وهو تاكيد القرآن على ان الساحة التاريخية لها سنن، ولها ضوابط، كما يكونهناك سنن وضوابط لكل الساحات الكونية الاخرى، وهذا المفهوم القرآني يعتبر فتحاعظيما للقرآن الكريم.. لاننا في حدود مانعلم القرآن اول كتاب عرفه الانسان اكد علىهذا المفهوم، وكشف عنه، واصر عليه، وقاوم بكل مالديه من وسائل الاقناع والتفهيم،قاوم النظرة العفوية او النظرة الغبيية الاستسلامية بتفسير الاحداث.
الانسان الاعتيادي كان يفسر احداث التاريخ بوصفها كومة متراكمة من الاحداث،يفسرها على اساس الصدفة تارة، وعلى اساس القضاء والقدر والاستسلام لامر اللّهسبحانه وتعالى.
القرآن قاوم هذه النظرية العفوية، وقاوم هذه النظرة الاستسلامية، ونبه العقل البشريالى ان هذه الساحة لها سنن، ولها قوانين، لكي تستطيع ان تتحكم فيها والا تحكمتهي فيك وانت مغمض العينين افتح عينك على هذه القوانين، افتح عينيك على هذهالسنن لكي تكون انت المتحكم لا لكي تكون هذه السنن هي المتحكمةفيك»((314)).
من ذلك كله فهم العقل الاسلامي قانون العلية في مجاليه الاجتماعي والتاريخي منمنهج القرآن الكريم، وفقا للاتجاه المدرسي القائم على اساس الايمان بقانون العليةفي الطبيعة والفكر والمجتمع الذي قالت به مدرسة ائمة اهل البيت(ع).
والايمان بقانون العلية الذي ثبته القرآن الكريم لايعني انفصال الوجود عن خالقه، بلعلى العكس تماما، انما تعمل الانظمة القانونية والحركة السببية في العالم وفق ما اودعاللّه فيها من قانون ونظام يتصف بالعدل والحكمة والمصلحة للخلق.
وجريا على هذا القانون فالانسان يشكل علة فاعلة لسلوكه وفعله الفرديوالاجتماعي، لذا كان مسؤولا عنه ومجازا عليه.
ولقد طبق علماء العقيدة قانون السببية في الحياة الاقتصادية.
ولناخذ لذلك مثلا تطبيقهم لهذا القانون على مستوى الاسعار في السوق التجارية،فذهبوا الى ان قانون العرض والطلب ، والرغبة في الشيء، وتدخل السلطة، والظروفوالاوضاع الطبيعية، كلها عوامل تؤثر في مستوى الاسعار.
قال الشيخ الصدوق محللا قانون الاسعار في السوق: (الغلاء هو الزيادة فياسعار((315)) الاشياء حتى يباع الشيء باكثر مما كان يباع في ذلك الموضع، والرخصهو النقصان في ذلك، فما كان من الرخص والغلاء عن سعة الاشياء وقلتها فان ذلك مناللّه عزوجل ويجب الرضا بذلك والتسليم له...)((316)).
وهكذا يوضح الشيخ الصدوق قانون العرض والطلب وتاثيره على الاسعار كقانونعلمي ثابت من فعل اللّه تعالى كقانون الطب والفيزياء، رغم قدرة الانسان على رفعالاسعار وخفضها.
واوضح العلا مة الحلي قانون السببية ودوره في تحديد السعر (الرخص والغلاء) فيالسوق التجارية بسبب التدخل الانساني فقال:
«وقد يحصلان من قبلنا بان يحمل السلطان الناس على بيع تلك السلعة بسعر غالظلما منه، او لاحتكار الناس، او لمنع الطريق خوف الظلمة، او لغير ذلك من الاسبابالمستندة الينا، فيحصل الغلاء، وقد يحمل السلطان الناس على بيع السلعة برخصظلما منه، او يحملهم على بيع ما في ايديهم من جنس ذلك المتاع فيحصلرخص»((317)).
وهكذا يفسر الفكر الاسلامي مستوى الاسعار في السوق بقانون العرض والطلب،وبتدخل الانسان، فيقنن ماورد في الروايات من ان اللّه هو المسعر، ويوضح دورالانسان السببي في تحديد مستوى السعر في السوق التجارية، انطلاقا من المنهجالقرآني الذي عرض الوجود باءسره ضمن قانون العلية والسببية. وهكذا نفهم المنهجية العلمية في الفكر الاسلامي، وتاصيله لنظرية المعرفة وتعميمتطبيقها في مجالات الفكر والنفس والطبيعة والمجتمع وفي ما وراء الطبيعة.. وذلك مايكشف الاصالة العلمية في آن واحد، كما يكشف البنية المنهجية المتماسكة في نظريةالمعرفة واثرها في عقيدة الانسان وسلوكه.
وتعني كلمة المحكم في اللغة المتقن الذى لا اضطراب فيه ولا اختلاف. ((ومنه حديثصفة القرآن (وهو الذكر الحكيم) اي الحاكم لكم، او هو المحكم الذي منه حديث ابنعباس: قرات المحكم على عهد رسول اللّه، يريد المفصل من القرآن، لانه لم ينسخ منهشيء، وقيل: ما لم يكن متشابها، لانه احكم بيانه بنفسه، ولم يفتقر الى غيره»((266)).
عرف العلماء المختصون بالتفسير والدراسات القرآنية المحكم والمتشابه بتعاريفمختلفة، وحددوا معناهما، فكانت هناك اتجاهات وآراء في تحديد وفهم معنىالمحكم والمتشابه.
وفيما يلي نورد عددا من تلك التعاريف:
عرف الراغب الاصفهاني المحكم بقوله: ((ما لا يعرض فيه شبهة من حيث اللفظ، ولامن حيث المعنى»((267)).
ونقل الحافظ جلال الدين السيوطي تعاريف عديدة للمحكم والمتشابه نذكر منها: «المحكم ما عرف المراد منه، اما بالظهور، واما بالتاويل، والمتشابه ما استاثر اللّه بعلمه،كقيام الساعة، وخروج الدجال والحروف المقطعة في اوائل السور»((268)). وقيل: «المحكم ما لا يحتمل من التاويل الا وجها واحدا، والمتشابه ما احتملاوجها»((269)).
ونقل عن عبد بن حميد عن الضحاك: «المحكمات ما لم ينسخ منه، والمتشابهات ما قدنسخ»((270)).
وروي عن عكرمة وقتادة وغيرهما: «ان المحكم الذي يعمل به، والمتشابه الذي يؤمنبه، ولا يعمل به»((271)).
وعرف الفقيه السيد محمد باقر الصدر المحكم والمتشابه بقوله: «فالمحكم من الاياتما يدل على مفهوم معين لانجد صعوبة، او ترددا في تجسيد صورته، او تشخيصه فيمصداق معين. والمتشابهما يدل على مفهوم معين تختلط علينا صورته الواقعية ومصداقه الخارجي»((272)).
وعرف الفخر الرازي المحكم والمتشابه بقوله: «...ان اللفظ اما ان يكون نصا، اوظاهرا، او مؤولا، او مشتركا، او مجملا».
اما النص والظاهر فيشتركان في حصول الترجيح الا ان النص راجح مانع عن الغير.والظاهر راجح غير مانع من الغير، فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمحكم.
واما المجمل والمؤول فهما مشتركان في ان دلالة اللفظ عليه غير راجحة. وان لم يكنراجحا لكنه غير مرجوح. والمؤول مع انه غير راجح فهو مرجوح لا بحسب الدليلالمنفرد. فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمتشابه، لان عدم الفهم حاصل فيالقسمين جميعا...»((273)).
وورد عن الامام جعفر الصادق(ع): «ان القرآن محكم ومتشابه، فاما المحكم فنؤمنبه، ونعمل به، وندين به، واما المتشابه فنؤمن به، ولا نعمل به، وهو قول اللّه عزوجلواما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه...)...».
وورد عن ائمة اهل البيت(ع) ايضا: «من رد متشابه القرآن الى محكمه هدي الىصراط مستقيم»((274)).
واستعمل القرآن الكريم وصف (المحكم والمتشابه) لكل ما ورد فيه، فهو:
1- وصف آياته كلها بانها محكمة، فقال تعالى: (الر # كتاب اءحكمت آياته...).
ومعنى الاحكام الوارد في هذه الاية وامثالها هو الضبط والاتقان، فلا شيء في آيالقرآن غير محكم في لغته واسلوبه وبيانه ودقة معانيه، وانسجامه مع غيره من الايات،وعدم تناقضه معها.
(لو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا). (صنع اللّه الذي اتقن كل شيء...).
2- وصف آياته كلها بالمتشابه، جاء ذلك بقوله تعالى (اللّه نزل احسن الحديث كتابامتشابها)((275)).
ويقصد بالتشابه هنا التماثل في الاتقان والبلاغة والاهداف والاتساق.
3- وصف القرآن آياته بان فيها المحكم والمتشابه، بالمعنى الاصطلاحي الذي حددهالعلماء. جاء هذا الوصف في قوله تعالى:
(هو الذي انزل عليك الكتاب منه آياتمحكمات هن اءم الكتاب واءخر متشابهات فاما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابهمنه ابتغاء الفتنة وابتغاء تاويله وما يعلم تاويله الا اللّه والراسخون في العلم يقولونآمنا به كل من عند ربنا وما يذكر الا اولوا الالباب)((276)).
ومن خلال تعاريف العلماء ودراساتهم للمحكم والمتشابه نعرف دلالة هذه الاية،وماذا يعني المحكم والمتشابه الواردان فيها؟ ولماذا كانت هناك آيات متشابهة، ولمتكن جميعها محكمة بهذا المعنى؟ لماذا المتشابه في القرآن:
اتضح لنا ان القرآن كله كتاب محكم في المبنى والمعنى، في الشكل والمضمون، سواءما سمي منه محكما، او ما اطلق عليه اسم المتشابه. وعرفنا المقصود بالمتشابه بانهالاي الذي يصعب تشخيص مصداقه في العالم الخارجي، كما يذهب الشهيد الصدر،رضوان اللّه عليه الى ذلك، ومفسرون آخرون.
وقد يورد البعض سؤالا لماذا كان المتشابه في القرآن ؟.. اليس القرآن كتاب بيانوهداية للبشرية؟ او ليس المفروض ان يكون كله محكما لاتشابه فيه؟ فهو صادر عنخالق الوجود، وهو القادر العليم.
ويجيب العلماء الباحثون على هذا الاشكال بان الداعي لوجود المتشابه في القرآن، هومستوى قدرة الانسان على فهم الحقائق التي تحدث عنها القرآن في هذه الايات،وادراكها اولا.
وحقيقة القضايا التي تحدث عنها في تلك المواضع ثانيا.
فمثلا تحدث القرآن عن صفات اللّه تعالى، وعن عوالم الغيب المجردة عن الحسيات،وعالم الممكنات المعهود لدى الانسان، فعبر عنها باللفظ الذي يقرب الفهم الى ذهنه،فاستعمل كلمة (العرش) و (الكرسي) و (اليد) و (الغضب) و (المكر) و (السخط) و(الرضا) عند وصفه للخالق سبحانه، او التعريف بملكه وسلطانه، لتقريب المعانيوالحقائق الخارجية الى ذهن الانسان.
كما ان من اسباب وجود المتشابه في القرآن، هو دعوة العقل البشري الى التحريوالبحث، وبلورة الفهم المختلط، ولاختبار الانسان في عقيدته وايمانه، فهو يواجهالمحكم والمتشابه، وهو مدعو الى فهم المتشابه على ضوء المحكم لاسباب لغوية،كالمشتركات اللفظية، وكاللجوء الى استعمال المجاز..
وثبت ائمة اهل البيت(ع) المنهج السليم لفهم المتشابه، فقد ورد عن الامامالصادق(ع): «من رد متشابه القرآن الى محكمه فقد هدي الى صراط مستقيم».
فمن المحكمات مثلا قوله تعالى: (ليس كمثله شيء...) وقوله تعالى: (لا تدركهالابصار وهو يدرك الابصار).
فيرد المتشابه في صفات اللّه تعالى اليها كقوله تعالى: (يد اللّه فوق ايديهم) وقوله: (وسع كرسيه السماوات والارض).
وقوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة). فتفسير كلمة (ناظرة) بالراجيةالمنتظرة للعطاء بعد ردها الى قوله تعالى: (لاتدركه الابصار وهو يدرك الابصار).
ينهي ماقد يتوهمه البعض من التجسيم ورؤية اللّه بالبصر البشري.
علاقة السنة بالقرآن السنة النبوية: «هي اسم يطلق على كل ما صدر عن النبي من قول او فعل اوتقرير»((277)).
ان من الاسس الاعتقادية التي اوضحها القرآن للبشرية ان كل ما صدر عن النبي(ص)هو عن اللّه سبحانه، فسنة الرسول(ص) هي متلقاة من اللّه جل ثناؤه، متلقاة بمعناهادون لفظها، فهي وحي كالقرآن. غير ان القرآن موحى بلفظه ونظمه ومعناه، وهيموحاة بمعناها.
جاء هذا البيان في قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى × ان هو الا وحي يوحى × علمه شديد القوى) وفي قوله تعالى: (ماآتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وفي قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول اللّه اسوة حسنة).
وواضح ان الرسول الكريم هو المخاطب بالقرآن، وهو العالم بما حوى من علموشريعة وهدي، والعارف بتفسيره وتاويله، والمكلف ببيان مجملاته وغوامضه، وماانطوت عليه اعماقه وايحاءاته.
نقرا تلك الحقيقة في قوله سبحانه:
(وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم) (وما نزلنا عليك الكتاب الا لتبين لهم الذي فيه يختلفون).
ولقد قام الرسول(ص) باداء هذه المهمة، وبين للناس ما بلغ به من خلال القولوالفعل والتقرير.
فقد فسر الرسول الكريم محمد(ص) القرآن بقوله وفعله وتقريره.
ولقد استقرا العلماء موارد علاقة السنة بالكتاب وبحثوها بحثا مفصلا في علم اصول الفقه، كجزء من منهج الاستنباط من الكتاب، وهي:
1- ان السنة تبين مجمل الكتاب.
2- ان السنة خصصت عموم الكتاب.
3- ان السنة قيدت مطلق الكتاب.
4- ان السنة لها قوة نسخ الكتاب.
التطبيق:
1- السنة تبين مجمل الكتاب: من الامور الواضحة لدى الجميع ان الكثير مما جاء فيالقرآن من الصلاة والزكاة والصوم والحج... الخ جاء مجملا غير مفصل.
وقد قام الرسول الكريم(ص) ببيان تلك المجملات وتفصيلها، فعلم الناس كيفيةالصلاة والصوم والزكاة والحج بكامل تفاصيلهامن خلال البيان اللفظي والتطبيقي الذي مارسه بسيرته العملية، وبذا بين للامة تفاصيلالقضايا المجملة.
عرف المحقق الحلي المجمل بانه: ((ما افاد شيئا من جملة اشياء، هو معين في نفسه، واللفظ لا يعينه»((278)).
ثم قال: (والضابط فيه: ان كل ما لا يستقل بنفسه في معرفة المراد به فهومجمل)((279)).
وعرفه الفقيه الراحل الشيخ محمد رضا المظفر بقوله: «عرفوا المجل اصطلاحا: بانه مالم تتضح دلالته، ويقابله المبين»((280)).
ثم قال: «والمقصود من المجمل على كل حال، ما جهل فيه مراد المتكلم ومقصوده اذاكان لفظا، وما جهل فيه مراد الفاعل ومقصوده اذا كان فعلا...» ومن ثم قال: «ومن هذا البيان نعرف ان المجمل يشمل اللفظ والفعل» ثم استرسل في الحديث عن الامثلةالمجملة من الايات فاورد قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما) ثم بينان لفظ اليد المقصود قطعها هنا هي من المجملات.
وللايضاح نختصر هذا البيان بين يدي القارئ: قال: «واما من ناحية اليد فان الظاهر ان اللفظ لو خلي ونفسه يستفاد منه ارادة تمام العضو المخصوص، ولكنه غير مراد يقينافي الاية فيتردد بين المراتبالعديدة من الاصابع الى المرفق، لانه يعد فرض عدم ارادة تمام العضو لم تكن ظاهرةفي واحدة من هذه المراتب. فتكون الاية مجملة في نفسها من هذه الناحية. وان كانتمبينة بالاحاديث عن آل البيت(ع) الكاشفة عن ارادة القطع من اصولالاصابع»((281)).
وهكذا تبين السنة مجمل الكتاب، وتوضح مراد القرآن من اليد في هذه الاية.
2- ان السنة تخصص عموم الكتاب: عرف المحقق الحلي العام بقوله: «هوالمستغرق لجميع ما يصلح له اذا افاد في الكل فائدة واحدة»((282)). ان الاحكام الشرعية والقوانين الاسلامية حسب متعلقاتها والقضايا التي تنظمها تنقسمالى قسمين: احكام عامة، واحكام خاصة. فكثيرا ما تاتي الاحكام بصيغة عامة، ثم ياتيالتخصيص، وهو اخراج مساحة محدودة من تلك المساحة الكلية بتشريع احكامخاصة بها دون بقية افراد ذلك العموم، ونجد ذلك واضحا في الاحكام التي جاء بهاالقرآن الكريم. فقد جاء باحكام عامة تشمل الافراد المتماثلة، ثم اخرج بعض الافرادواستثناها من الحكم العام بحكم آخر.
ووفق منطق التشريع وعرفه فان الخاص يقدم على العام، اذا ماتعارضا. اذ يعتبرالخاص قرينة مفسرة لارادة المشرع، ويخصص القرآن بالقرآن، كما يخصص بالسنة،ومثال ذلك عموم قوله تعالى: (فاذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) فخصصبقوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون).
وتخصيص الكتاب بالسنة هو مما اجمع عليه المسلمون بمختلف مذاهبهموآرائهم.
ومن الامثة على عموم القرآن المخصص بالسنة هو قوله تعالى:
(يوصيكم اللّه فياولادكم للذكر مثل حظ الانثيين...)((283)).
فان هذه الاية شرعت حكما عاما ينص على ان الابناء يرثون الاباء بصورة عامة غير انالسنة النبوية اخرجت القاتل من هذا العموم بقول الرسول الكريم(ص) «القاتل لايرث»((284)).
وعمم القرآن حكم تحريم الربا بقوله تعالى: (واحل اللّه البيع وحرم الربا) وقامالرسول بتخصيص هذا العموم بقوله(ص):
«ليس بيننا وبين اهل حربنا ربا، ناخذمنهم الف الف درهم بدرهم، وناخذ منهم ولا نعطيهم»((285)).
وهكذا خصصت السنة عموم الكتاب، والامثلة على ذلك كثيرة، وهذا المبحث هو منالمباحث المهمة في علم اصول الفقه، وللعلماء المختصين دراسات تفصيلية فيذلك.
كما يذهب الشيعة الامامية الى تخصيص الكتاب بالسنة، يذهب اصحاب المذاهبالاخرى الى ذلك ايضا، نذكر مثالا على ذلك ما قاله الامدي الحنبلي: (يجوز تخصيصعموم القرآن بالسنة)((286)). ويستدل على ذلك بقوله: (وخصوا قوله تعالى (يوصيكم اللّه في اولادكم)بقوله(ص) «لا يرث القاتل، ولا يرث الكافر من المسلم، ولا المسلم منالكافر»((287)).
التخصيص بخبر الاحاد: قسم العلماء الروايات الصادرة عن الرسول(ص)والائمة(ع) حسب سندها الى رواية آحاد، واخرى متواترة، وانتهوا في هذا التقسيمالى ان المتواتر يفيد القطع في حين خبر الاحاد يفيد الظن، ثم اثيرت مشكلة علمية،وهي هل يمكن ان يخصص عموم القرآن بالسنة المروية عن طريق الاحاد؟ فالعاميخصص تارة بدليل قطعي، واخرى يرد دليل ظني من السنة يفيد تخصيص العام. وهوخبر الاحاد فهل يخصص العام القرآني بخبر الاحاد الثقة. اختلف العلماء في امكانتخصيص الكتاب بخبر الاحاد.
فذهب المشهور، كما افاد السيد ابو القاسم الخوئي، الى جواز تخصيص عموم الكتاببخبر الاحاد.
وخالف فيه فريق من علماء اهل السنة، فذهب فريق منهم الى منعه مطلقا، وذهبفريق آخر الى اشتراط جواز التخصيص بان يكون العام قد خص بدليل قطعي من قبل،وذهب آخرون الى اشتراط ان يكون العام قد خص بدليل منفصل((288)).
ومن جملة ما اشكل به على عدم جواز تخصيص العام بخبر الاحاد ان خبر الاحاد ظنيالصدور، والقرآن قطعي الصدور، وان الاخبار تعرض على القرآن، فما لم يوافق منهاالقرآن تسقط حجيته، فكيف تقبل معارضة خبر الاحاد المخصص لعموم القرآن،فيقدم عليه كقرينة مفسرة، فاجاب المجوزون ان التعارض هو بين خبر الاحاد الظني،وبين ظواهر الكتاب، والظواهر هي ظنية بحد ذاتها. وبالتالي فان التعارض يكون بيندلالة الكتاب الظنية الموحي بها ظاهر اللفظ، وبين دليل ظني ثبتت حجيته بدليلقطعي ما لم يكن هناك مانع يمنع من العمل به، وان الدليل المخصص لعموم الكتاب لايعني مخالفة الكتاب، بل هو قرينة لايضاح المعنى المقصود من الدليل العام((289)).
وذكر السيد ابو القاسم الخوئي وهو من اعاظم علماء الشيعة الامامية المعاصرينوصاحب مدرسة وآراء اصولية ان ما يذهب اليه المشهور هو المختار (جوازتخصيص عموم الكتاب بخبر الاحاد)((290)). 3- السنة تقيد مطلق الكتاب: عرف الفقيه الاصولي الشهيد الصدر الاطلاق والتقييد بقوله: «الاطلاق يقابل التقييد، فان تصورت معنى ولاحظت فيه وصفا خاصا او حالةمعينة، كان ذلك تقييدا، وان تصورته بدون ان تلحظ معه اي وصف او حالة اخرى كانذلك اطلاقا، فالتقييد اذن هو لحاظ خصوصية زائدة في الطبيعة، والاطلاق عدم لحاظالخصوصية الزائدة»((291)).
وواضح ان المعاني القرآنية كما ورد بعضها مطلقا، ورد بعضها مقيدا.. وكما تقيد الايةاطلاق آية اخرى، فان السنة تقيد اطلاق الايات ايضا، كما تخصص عموماتها، والرسول(ص) عندما يخصص ويقيد انما هو مبين لمحتوى الكتاب، ومبلغ عن اللّهتعالى.
ويبين العلماء المختصون ان خبر الاحاد المستجمع لشرائط الحجية، كما يخصصعموم القرآن، فانه يقيد مطلقه ايضا، ولا يغير هذا التقييد مما يخالف الكتاب، بل هومما يوضح المراد منه.
ذكر ذلك السيد ابو القاسم الخوئي(رحمهاللّه) في كتابه البيان:
«...ان الخبرال#مخصص للكتاب، او المقيد له، حجة في نفسه، ويلزم العمل به الا حين يبتليبالمعارض»((292)).
السنة ونسخ القرآن: قد اتضح لنا مما سبق من البحث معنى النسخ في اللغة والاصطلاح، واتضح ايضا ان القرآن ينسخ بالقرآن. كمابحث العلماء امكانية نسخ القرآن بالسنة، ونريد هنا ان نعرف بهذا الموضوع. وقبلالدخول في التعريف نوضح ان الناسخ لكي يكون حجة يجب ان يكون قطعيا، اذ لاحجة فيه ان كان ظنيا، كما يقول العلماء، والاصل كما يجمع الفقهاء من مختلفالمذاهب، هو عدم النسخ عند الشك في النسخ.
واختلف علماء الاسلام في جواز نسخ القرآن بالسنة، فذهب بعضهم الى امكان نسخالكتاب بالسنة، وذهب آخرون الى عدم جوازه، وفيما يلي ننقل بعضا من هذه الاراء.
قال الزركشي: «واختلف في نسخ الكتاب بالسنة»، قال ابن عطية: مذاق الامة علىالجواز، وذلك موجود في قوله(ص):
«لا وصية لوارث» وابى الشافعي ذلك. والحجةعليه من قوله في اسقاط الجلد في حد الزنا عن الثيب الذي رجم، فانه لا مسقط لذلكالا السنة، فعل النبي(ص).
قلنا: «اما آية الوصية فقد ذكرنا ان ناسخها القرآن، واما ما نقله عن الشافعي فقد اشتهرذلك لظاهر لفظ ذكره (الرسالة)، وانما مراد الشافعي ان الكتاب والسنة لا يوجدانمختلفين الا ومع احدهما مثله ناسخ له، وهذا تعظيم لقدر الوجهين وابانة تعاضدهماوتوافقهما، وكل من تكلم على هذه المسالة لم يفهم مراده...»((293)). وتذهب الشيعة الامامية الى جواز نسخ القرآن بالسنة المتواترة او الاجماع القطعيالكاشف عن صدور النسخ عن المعصوم(ع) وهذا القسم من النسخ لا اشكال فيه عقلاونقلا((294)).
وجدير ذكره ان المعصوم المقصود هنا هو الرسول الكريم محمد(ص) فالسنة النبويةهي التي لها قوة نسخ القرآن.
وقد مر بنا قول الفقيه الشهيد الصدر: «ان تغيير احكام الشريعة عن طريق النسخ يكونايضا احد العوامل المستوجبة للتعارض بين الاحاديث والنصوص، ولكن التعارضعلى اساس هذا العامل تنحصر دائرته في النصوص الصادرة عن النبي(ص) ولا تعمالنصوص الصادرة عن الائمة(ع)، لما ثبت في محله من انتهاء عصر التشريع بانتهاءعصر النبي(ص) وان الاحاديث الصادرة عن الائمة المعصومين(ع) ليست الا بيانالما شرعه النبي(ص) من الاحكام وتفاصيلها»((295)).
ومما ينبغي ايضاحه هنا هو ان الشيعة الامامية لم يثبت لديهم حكم قرآني منسوخبصورة فعلية بالسنة النبوية. وانما قالوا بامكان نسخ الكتاب بالسنة فقط، ذلك لان مايفعله الرسول(ص) هو بامر اللّه تعالى وصادر عنه سبحانه.
ملحق منهج المعرفة في القرآن الكريم من قراءة وتحليل المعرفة الانسانية، ونظم التفكير، ومناهج البحث في مجال الطبيعةوالفكر والمجتمع والعقيدة والشريعة التي افرزها الفكر الاسلامي نستنتج ان منهجالبحث والتفكير ومصدر المعرفة وادوات الفهم والاستنباط هي المسؤولة بشكلاساس مسؤولية علمية عن تعدد الاراء والافكار والمفاهيم في اطار المعرفة الاسلاميةبالاضافة الى قصور الباحث العلمي، وهوى النفس، وتدخل العامل الذاتي في البحثالموضوعي، وتلك العوامل مجتمعة هي المسؤولة عن مستوى نتائج البحث من حيثالصحة والاصالة والخصوبة والنضج... الخ.
ونحن عندما ندرس البنية المنهجية للفكر الاسلامي نجد اثر المنهج، واضحا في كلحقل من حقول المعرفة.
لذا نجد اثر هذا المنتظم المنهجي واضحا في بنية المعرفة وصياغة شخصيتها، وتقريرنتائج العمل العقلي فيها. فما من مدرسة فكرية الا وانطلقت من تحديد مصادرالمعرفة اولا، ومن تثبيت اساس للتفكير، ومنهج متميز في البحث وتقرير النتائج ثانيا،وبذلك يتحدد عمقها وتتشخص اصالتها وانتماؤها.
ومن الواضح تاريخيا ان الفكر الاسلامي قد تفاعل مع افكار الشعوب والامم الاخرىمن خلال الاختلاط والفتوحات والترجمة، فتفاعل مع الفكر اليوناني والفارسيوالهندي والصيني واليهودي والمسيحي المحرفين، فافرز هذا التفاعل نتائج انحرافيةبالاضافة الى محاولات التحريف الداخلية التي نشات في داخل المجتمع الاسلاميواثر ذلك كله في طريقة التفكير والمناهج المتعددة لدى كثير من اصحاب النظرياتوالفلسفات والاتجاهات الفكرية في المجتمع الاسلامي، لاسيما اصحاب المناهجالفلسفية والكلامية والسلوكية.
وكما اثر الفكر الاجنبي الوافد اثره في الاتجاه المنهجي، اثر القصور العلمي وضيقالافق الفكري في افراز مناهج وطرق تفكير عقيمة، وغير منتجة احيانا. وقاصرة عنفهم الرسالة، وتطوير الفكر والبحث العلمي، وتنمية العلم والمعرفة في مجالالطبيعة، والمجتمع، والشريعة، ونظم التفكير احيانا اخرى.
وفي خضم هذا الصراع المنهجي، ونظم التفكير، كانت مدرسة ائمة اهل البيت(ع) تواصل جهادها الفكري والسياسي لتثبيت معالم منهج البحث والتفكير، والفهمالاسلامي، للنص والمحتوى، وطريقة الحياة، كما تلقاه ائمة اهل البيت(ع) من كتاباللّه، وسنة نبيه الكريم(ص)، فاكتسب هذا المنهج تاصيلا قرآنيا، وميزة علمية واقعية،فكان منهجا يحترم العقل، ويلتزم بقواعد الشرع، ويسعى لتطوير الحياة العلميةبشقيها المادي والانساني.
المصادر الاولى للمعرفة الانسانية:
ومن دراسة وتحليل المعرفة البشرية المعقدة بنظرياتها وقوانينها ومسلماتها، نجدالفكر الاسلامي يرجعها الى مسلمات اساسية قد حصل عليها الفكر الانساني منمصادر اساسية للمعرفة فشكلت تلك الاسس والمسلمات بنية العقل والتفكيرالمسلم، واعطته ميزته وصفته الخاصة به.
والذي سنعرضه هنا هو رؤية مدرسة اهل البيت(ع) للمعرفة الانسانية، مستفادة منالمنهج القرآني، والذي اختلفت فيه مع مدرسة الاشاعرة التي تبنت معظم المذاهبالفقهية الاسلامية الاخرى آراءها في مجال الفكر والعقيدة، والمسلمات الكبرى فيصياغة العقل المسلم، والتفكير الاسلامي.
وقد بنى الفهم الامامي نظريته في المعرفة على اساس واقعي متسق مع منطق القرآن،فاعطت هذه النظرية العقل دوره الفاعل، كما اعطت المسلمات الواقعية في عالمالوجود قيمتها، واثرها في تفسير حوادث الطبيعة، والنفس، والمجتمع، والتاريخ.
فقد بنى هذا الفكر النظرية الاسلامية في المعرفة على اساس تشخيصه لمصادرالمعرفة الاساسية للادراك البشري الذي انتهى الى الايمان بان الحس هو مصدرالمعرفة الاولى، وان المعلومات الحسية الوافدة على العقل البشري من العالم المحيطبه عن طريق الحواس يتناولها العقل فيدركها، ويستنتج منها، ويبني عليها.
ولنقرا افكار العلا مة الحلي، وهو يثبت اصول المعرفة الانسانية التي ارجعها الىالمعلومات الحسية، قال(رحمهاللّه): «اعلم ان اللّه خلق النفس الانسانية في مبدافطرتها خالية من جميع العلوم بالضرورة، قابلة لها بالضرورة((296))، وذلك مشاهدفي حال الاطفال. ثم ان اللّه تعالى خلق للنفس آلات بها يحصل الادراك، وهي القوىالحساسة، فيحس الطفل في اول ولادته بحس ولمس مايدركه من المعلومات، ويميزبواسطة الادراك البصري، على سبيل التدريج بين ابويه وغيرهما وكذلك يتدرج فيالطعوم وباقي المحسوسات الى ادراك مايتعلق بتلك الالات، ثم يزداد تفطنه فيدركبواسطة احساسه بالامور الجزئية، الامور الكلية المشاركة والمباينة، ويعقل الامورالكلية الضرورية بواسطة ادراك المحسوسات الجزئية، ثم اذا استكمل الاستدلالوتفطن بمواضع الجدال، ادرك بواسطة العلوم الضرورية، العلوم الكسبية.
فقد ظهر من هذا ان العلوم الكسبية فرع على العلوم الضرورية الكلية، والعلومالضرورية الكلية فرع على المحسوسات الجزئية، فالمحسوسات اذن هي اصولالاعتقادات، ولا يصح الفرع الا بعد صحة اصله، فالطعن في الاصل طعن فيالفرع...»((297)).
ويتحدث الشهيد الصدر عن هذه النظرية بشيء من الايضاح والتفصيل فيقول متحدثاعن نظرية الفلاسفة الاسلاميين (نظرية الانتزاع):
«وتتلخص هذه النظرية في تقسيم التصورات الذهنية الى قسمين هما: تصوراتاولية، وتصورات ثانوية، فالتصورات الاولية هي الاساس التصوري للذهن البشري،وتتولد هذه التصورات من الاحساس بمحتوياتها بصورة مباشرة، فنحن نتصورالحرارة لاننا ندركها باللمس، ونتصور اللون لاننا ادركناه بالبصر، ونتصور الحلاوةلاننا ادركناها بالذوق، ونتصور الرائحة لاننا ادركناها بالشم.
وهكذا جميع المعاني التي ندركها بحواسنا، فان الاحساس بكل واحد منها هو السببفي تصوره ووجود فكرة عنه في الذهن البشري، وتتشكل من هذه المعاني القاعدة الاولية للتصور، وينشي الذهن بناء على هذه القاعدة التصورات الثانوية، فيبدا بذلكدور الابتكار والانشاء.
وهو الذي نصطلح عليه بلفظ (الانتزاع) فيولد في الذهن مفاهيم جديدة من تلكالمعاني الاولية.
وهذه المعاني الجديدة خارجة عن طاقة الحس، وان كانت مستنبطة ومستخرجة منالمعاني التي يقدمها الحس الى الذهن والفكر.
وهذه النظرية تتسق مع البرهان والتجربة، ويمكنها ان تفسر جميع المفرداتالتصورية تفسيرا متماسكا، فعلى ضوء هذه النظرية نستطيع ان نفهم كيف انبثقتمفاهيم العلة والمعلول والجوهر والعرض والوجود والوحدة في الذهن البشري، انهامفاهيم انتزاعية يبتكرها الذهن على ضوء المعاني المحسوسة، فنحن نحس مثلابغليان الماء حين تبلغ درجة حرارته ماة، وقد يتكرر احساسنا بهاتين الظاهرتينظاهرة الغليان والحرارة آلاف المرات، ولا نحس بعلية الحرارة للغليان مطلقا. وانماالذهن هو الذي ينتزع مفهوم العلية من الظاهرتين اللتين يقدمها الحس الى مجالالتصور»((298)).
وهكذا تنتهي هذه النظرية الى ان هناك:
1- معارف اولية (حسية).
2- معارف عقلية انتزاعية((299)).
واذا كان هذا تحليل ودراسة الفكر الاسلامي وفق الفهم العقلي والفلسفي، فلنبحثعن اصوله القرآنية، وجذوره في معارف الوحي، لنعرف الاصالة والمنهجية القرآنية في هذه النظرية.
واذا شئنا تاصيل النظرية فسنجد انها اسست، واستمدت مقوماتها منالاية الكريمة:
(واللّه اخرجكم من بطون امهاتكم لاتعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والافئدةلعلكم تشكرون)((300)) فهذه الاية هي الاساس العلمي لهذه النظرية، والمؤيدة للمصادر الحسية للمعرفةولاكتشاف العقل وتشخيصه للاسس الاولى للمعرفة البشرية.
واذن فلنقرا تفاسير هذه الاية كما بينها اساطين الفكر الامامي.
قال الشيخ الطوسي مفسرا هذه الاية: «تفضل عليكم بالحواس الصحيحة التي هيطرق العلم بالمدركات. وجعل لكم قلوبا تفقهون بها، لانها محل المعارف»((301)).
وفسر الشيخ محمد رضا القمي المشهدي، وهو من علماء القرن الثاني عشر الهجريهذه الاية بقوله: «...اداة تتعلمون فتحسون بمشاعركم جزئيات الاشياء فتدركونها، ثمتتنبهون بقلوبكم لمشاركات ومباينات بينها بتكرير الاحساس حتى تتحصل لكمالعلوم البديهية، وتتمكنوا من تحصيل المعارف الكسبية بالنظر فيها»((302)).
اما المفسر الفيلسوف العلا مة الطباطبائي فيقول في تفسير هذه الاية: «والاية تؤيدماذهب اليه علماء النفس من ان لوح النفس خالية عن المعلومات اول تكونها، ثمتنتقش فيها شيئا فشيئا كما قيل وهذا في غير علم النفس بذاتها... ثم قال:
وقولهوجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون...) اشارة الى مبادئ العلمالذي انعم بها على الانسان، فمبدا التصور هو الحس. والعمدة فيه السمع والبصر، وانكان هناك غيرهما من اللمس والذوق والشم، ومبدا الفكر هو الفؤاد((303))»((304)).
وهكذا تتضح اسس نظرية المعرفة في الفكر الاسلامي كما فهمتها مدرسة اهلالبيت(ع) بانها نظرية مرتكزة على اساس قرآني.
فقد آمنت هذه المدرسة كما صورها العلا مة الحلي والشهيد الصدر وجمع منالمفسرين باصالة المعرفة الحسية لياتي دور العقل فينتزع من المعلومات الجزئيةالحسية، المعارف الضرورية الكلية التي تسلك كاساس للبحث والتفكير في العلومالتحصيلية كلها، وبمختلف مباحثها وموضوعاتها.
وبذا اكتسب منهج البحث الاسلامي قيمته الواقعية والعلمية.
واذا كان المرتكز الاول من مرتكزات نظرية المعرفة هو ان المعارف الحسية هي اصلالمعرفة، وان العقل البشري ينتزع منها المعارف الاخرى، كمبدا العلية الناتج عنعملية الاستقراء في هذا العالم بما يزخر به من الوان الموجودات، فان المرتكز الثانيمن مرتكزات نظرية المعرفة التي آمنت بها مدرسة اهل البيت(ع) واصلتها علىاساس المنهج القرآني هو الايمان بمبدا العلية (العلة الفاعلة والعلة الغائية) في هذاالوجود باسره، فقد آمنت مدرسة اهل البيت بان العالم الطبيعي والفكري والاجتماعيكله خاضع لقانون السبب والنتيجة، او مبدا العلية.
كما ان الوجود باسره قائم علىاساس مبدا العلة والمعلول.
وان هذا المبدا كما يساهم في تشكيل عقل علمي، فانه يقود العقل ايضا الى البحث عنعلل الوجود، وقانون الفكر والطبيعة والمجتمع، ويضفي على البحث والتفكير الصفةالعلمية والواقعية.
ولا تخفى على المفكر والباحث العلمي قيمة هذه النظرية ونتائجها التطبيقية فياكتشاف قوانين الطبيعة، والربط بين التفكير والمعرفة. والايمان بقوانين علمية تسيرحركة التاريخ والمجتمع، وتنظم السلوك وعلاقات الانسان.
ولنقرا ايضاح الشهيد الصدر لمبدا العلية في عالم الفكر والطبيعة والمجتمع، فقدكتب(رحمهاللّه) يقول: «ان من اوليات مايدركه البشر في حياته الاعتيادية مبدا العليةالقائل ان لكل شيء سببا، وهو من المبادئ العقلية الضرورية...»((305)).
ثم يسترسل في شرح هذه النظرية فيوضح عددا من المرتكزات والاستنتاجاتالمرتبطة بمبدا العلية التي تسلك كاساس للعلم والمعرفة البشرية بشتى فروعهافيقول: ((من الضروري ان نشير الى عدة قوانين من المجموعة الفلسفية للعلية التييرتكز عليها العلم، وهي كما يلي:
1- مبدا العلية القائل: ان لكل حادثة سببا.
2- قانون الحتمية القائل: ان كل سبب يولد النتيجة الطبيعية بصورة ضرورية، ولايمكن للنتائج ان تنفصل عن اسبابها.
3- قانون التناسب بين الاسباب والنتائج القائل: ان كل مجموعة متفقة في حقيقتها، منمجاميع الطبيعة يلزم ان تتفق ايضا في الاسباب والنتائج»((306)).
ثم يوضح قيمة مبدا العلية العلمي فيقول: «مبدا العلية هو الركيزة التي عليها جميعمحاولات الاستدلال، في كل مجالات التفكير الانساني، لان الاستدلال على شيء منالاشياء، يعني ان الدليل اذا كان صحيحا، فهو سبب للعلم بالشيء المستدل عليه، فحيننبرهن على حقيقة من الحقائق بتجربة علمية، او بقانون فلسفي، او باحساس بسيط،انما نحاول بذلك ان يكون البرهان علة للعلم بتلك الحقيقة، فلولا مبدا العليةوالحتمية، لما اءتيح لنا ذلك...»((307)) وجدير ذكره ان المذهب الاشعري قد انكر مبدا العلية والسببية في هذا الوجود مسلمابعلة واحدة، وهي اللّه سبحانه. وفسر ظاهرة العلاقة والترابط بين حدوث الاشياءبالعادة ورفض الايمان بمبدا التوالد العلي، ظنا منه ان هذا الايمان يخالف عقيدةالتوحيد، في حين تذهب مدرسة اهل البيت(ع) الى ان الايمان بمبدا تعدد الاسبابوالعلل وتسلسلها دليل آخر على توحيد اللّه وتجلي عظمته، ورجوع الاسباب والعللالى مشيئته وقدرته.
والقرآن الكريم قد ثبت مبدا العلية او السبب والنتيجة كلما تحدث عن الفكر والطبيعةوالمجتمع، بل وعرضها كوحدة سببية يرتبط بعضها ببعض، ويؤثر بعضها في البعضالاخر.
العلية والتفكير:
ففى مجال الفكر تحدث القرآن عن ان التفكير سبب مباشر للمعرفة، وعلة لها. واوضحان العلاقة بين التفكير والمعرفة هي علاقة السبب بالنتيجة.
فقد خاطب العقل والفكر البشري ودعاه الى ان يستقرئ عوالم الطبيعة والحياةليكتشف من خلالها وجود الخالق وعظمة قدرته. كما وجه العقول الى التفكر فيتجارب الامم السابقة ليكتشف العلاقة بين سقوطها واندثار حضارتها وبين الكفروالجريمة والانحراف.
فعلى الصعيد الاول نقرا علية التفكير للعلم والمعرفة، قال تعالى: (ان في خلقالسماوات والارض واختلاف الليل والنهار لايات لاولي الالباب# الذين يذكرون اللّه قياماوقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والارض ربنا ماخلقت هذا باطلاسبحانك فقنا عذاب النار)((308)).
وقال تعالى: (اللّه يتوفى الانفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضىعليها الموت ويرسل الاخرى الى اجل مسمى ان في ذلك لايات لقوميتفكرون)((309)).
وهكذا يوضح القرآن ان التفكير علة وسبب لانتاج المعرفة، فالتفكير في عالم الطبيعةوالانسان (استقراء مظاهر الوجود) يولد الايمان بوجود الخالق، لذا نجد الرسولالكريم(ع) يؤكذ هذه الحقيقة حين قال بعد نزول قوله تعالى: (ان في خلق السماواتوالارض واختلاف الليل والنهار لايات لاولي الالباب...).
قال: «ويل لمن لاكها بين لحييه ثم لم يتدبرها» اي لم يكن من اولي الالباب الذينيستنتجون وجود اللّه من التفكر في خلقه».
وان هذه المعادلة التفكيرية كما هي واضحة تجري على اساس الاختلاف بين موضوعالمقدمة وموضوع النتيجة (الاختلاف بين جنس العلة وجنس المعلول).
فالمقدمة هي مايتوفر من معلومات حسية استقرائية عن هذا الوجود لدى الانسانوالنتيجة هي اكتشاف وجود خالق لهذا العالم.
وهذه المرحلة من التفكير هي المرحلة التي عبر عنها الشهيد السعيد المفكر الاسلاميالكبير السيد محمد باقر الصدر بمرحلة التوالد الذاتي.
في حين نقرا في كتاب اللّه قدرة التفكير البشري على توليد نتائج علمية جديدة منخلال حركته بين المعلوم والمجهول، وقدرته على استنباطها وهي المرحلة التي اطلقعليها الشهيد الصدر اسم مرحلة التوالد الموضوعي للفكر. او المرحلة الاستنباطية منالدليل الاستقرائي.
وقد اوضح المتكلمون الامامية قدرة التفكير على انتاج المعرفة، وان العلاقة بينالتفكير والعلم هي علاقة السبب والنتيجة:
نذكر من هذه الاراء مااورده ابو اسحاق ابراهيم النوبختي صاحب كتاب (الياقوت)الكلامي الشهير.
قال: «والنظر يولد العلم كسائر الاسباب المولدة لمسبباتها».
ثم علق العلا مة الحلي على هذه الراي قائلا: اقول: اختلف الناس في ذلك، فقالتالمعتزلة: النظر الصحيح يولد العلم.
وقال الاشاعرة: ان العلم يحصل عقيبه لمجرد العادة من فعل اللّه تعالى كالعاديات.
وقال ابو بكر الباقلاني، وامام الحرمين الجويني : «ان العلم مايلزم النظر لزوما واجبا،وان لم يتولد عنه»((310)).
وهكذا نجد المدرسة الامامية قد اختلفت مع المدرسة الاشعرية في علية التفكيرللعلم، واسندت نظريتها الى اصول قرآنية.
قانون العلية وتفسير التاريخ والمجتمع:
وكما طبقت مدرسة اهل البيت مبدا قانون العلية على عالم الفكر والمعرفة طبقتهكذلك في مجال حركة التاريخ والمجتمع فمنت بقانون العلية التاريخية والسننالاجتماعية والاسباب في عالم المجتمع، السياسي والاقتصادي والتحول الاجتماعيوالسلوك الشخصي.
ولنقرا قانون العلية والسببية كما اوضحه القرآن وفهمته هذه المدرسة.
قال تعالى: (وان كادوا ليستفزونك من الارض ليخرجوك منها واذا لايلبثون خلافك الا قليلا # سنة من قد ارسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا)((311)).
وقال تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبةالمكذبين)((312)).
وقال تعالى: (ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الادبار ثم لايجدون وليا ولا نصيرا سنة اللّهالتي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة اللّه تبديلا)((313)). وقال تعالى: (ذلك بان اللّه لم يك مغيرا نعمة انعمها على قوم حتى يغيروامابانفسهم).
وهكذا يتحدث القرآن عن القانون التاريخي والاجتماعي او السببية الاجتماعيةوالتاريخية، فيربط بين الكفر باللّه وجرائم الانسان وانهيار الامم والحضاراتوالازمات الاقتصادية والسياسية والاوضاع النفسية... الخ.
فالقرآن يعرضها وحدة قانونية مترابطة.
وللتعرف على ذلك نقرا بيان الشهيد الصدر(رحمهاللّه) وتفسيره لقانون العليةالتاريخية كما اوضحه القرآن الكريم بعد ان استعرض عددا من الايات المتحدثة عنهذا القانون قال:
(من مجموع هذه الايات الكريمة يتبلور المفهوم القرآني الذياوضحناه، وهو تاكيد القرآن على ان الساحة التاريخية لها سنن، ولها ضوابط، كما يكونهناك سنن وضوابط لكل الساحات الكونية الاخرى، وهذا المفهوم القرآني يعتبر فتحاعظيما للقرآن الكريم.. لاننا في حدود مانعلم القرآن اول كتاب عرفه الانسان اكد علىهذا المفهوم، وكشف عنه، واصر عليه، وقاوم بكل مالديه من وسائل الاقناع والتفهيم،قاوم النظرة العفوية او النظرة الغبيية الاستسلامية بتفسير الاحداث.
الانسان الاعتيادي كان يفسر احداث التاريخ بوصفها كومة متراكمة من الاحداث،يفسرها على اساس الصدفة تارة، وعلى اساس القضاء والقدر والاستسلام لامر اللّهسبحانه وتعالى.
القرآن قاوم هذه النظرية العفوية، وقاوم هذه النظرة الاستسلامية، ونبه العقل البشريالى ان هذه الساحة لها سنن، ولها قوانين، لكي تستطيع ان تتحكم فيها والا تحكمتهي فيك وانت مغمض العينين افتح عينك على هذه القوانين، افتح عينيك على هذهالسنن لكي تكون انت المتحكم لا لكي تكون هذه السنن هي المتحكمةفيك»((314)).
من ذلك كله فهم العقل الاسلامي قانون العلية في مجاليه الاجتماعي والتاريخي منمنهج القرآن الكريم، وفقا للاتجاه المدرسي القائم على اساس الايمان بقانون العليةفي الطبيعة والفكر والمجتمع الذي قالت به مدرسة ائمة اهل البيت(ع).
والايمان بقانون العلية الذي ثبته القرآن الكريم لايعني انفصال الوجود عن خالقه، بلعلى العكس تماما، انما تعمل الانظمة القانونية والحركة السببية في العالم وفق ما اودعاللّه فيها من قانون ونظام يتصف بالعدل والحكمة والمصلحة للخلق.
وجريا على هذا القانون فالانسان يشكل علة فاعلة لسلوكه وفعله الفرديوالاجتماعي، لذا كان مسؤولا عنه ومجازا عليه.
ولقد طبق علماء العقيدة قانون السببية في الحياة الاقتصادية.
ولناخذ لذلك مثلا تطبيقهم لهذا القانون على مستوى الاسعار في السوق التجارية،فذهبوا الى ان قانون العرض والطلب ، والرغبة في الشيء، وتدخل السلطة، والظروفوالاوضاع الطبيعية، كلها عوامل تؤثر في مستوى الاسعار.
قال الشيخ الصدوق محللا قانون الاسعار في السوق: (الغلاء هو الزيادة فياسعار((315)) الاشياء حتى يباع الشيء باكثر مما كان يباع في ذلك الموضع، والرخصهو النقصان في ذلك، فما كان من الرخص والغلاء عن سعة الاشياء وقلتها فان ذلك مناللّه عزوجل ويجب الرضا بذلك والتسليم له...)((316)).
وهكذا يوضح الشيخ الصدوق قانون العرض والطلب وتاثيره على الاسعار كقانونعلمي ثابت من فعل اللّه تعالى كقانون الطب والفيزياء، رغم قدرة الانسان على رفعالاسعار وخفضها.
واوضح العلا مة الحلي قانون السببية ودوره في تحديد السعر (الرخص والغلاء) فيالسوق التجارية بسبب التدخل الانساني فقال:
«وقد يحصلان من قبلنا بان يحمل السلطان الناس على بيع تلك السلعة بسعر غالظلما منه، او لاحتكار الناس، او لمنع الطريق خوف الظلمة، او لغير ذلك من الاسبابالمستندة الينا، فيحصل الغلاء، وقد يحمل السلطان الناس على بيع السلعة برخصظلما منه، او يحملهم على بيع ما في ايديهم من جنس ذلك المتاع فيحصلرخص»((317)).
وهكذا يفسر الفكر الاسلامي مستوى الاسعار في السوق بقانون العرض والطلب،وبتدخل الانسان، فيقنن ماورد في الروايات من ان اللّه هو المسعر، ويوضح دورالانسان السببي في تحديد مستوى السعر في السوق التجارية، انطلاقا من المنهجالقرآني الذي عرض الوجود باءسره ضمن قانون العلية والسببية. وهكذا نفهم المنهجية العلمية في الفكر الاسلامي، وتاصيله لنظرية المعرفة وتعميمتطبيقها في مجالات الفكر والنفس والطبيعة والمجتمع وفي ما وراء الطبيعة.. وذلك مايكشف الاصالة العلمية في آن واحد، كما يكشف البنية المنهجية المتماسكة في نظريةالمعرفة واثرها في عقيدة الانسان وسلوكه.