الفكر المطلق هو الفكر الذي تتفق عليه البشرية؛ لأنه لا يحمل سوى معنى واحد لا يمكن الاختلاف عليه أو القول بآخر سواه، ويكون حكم هذا الفكر هو نفس حكم القانون الطبيعي أو المعادلة الرياضية التي تحمل نفس المعنى الواحد الذي لا يسمح بغيره أو بالتعدد أو التناقض أو التأويل؛ وبالتالي إذا قال علماء الدين بأن: "كل فئة تعتقد أنها تمتلك الحقيقة" فيكون معنى هذا أنهم يتكلمون عن "حقيقة نسبية" أو "حقيقة محدودة أو مقيدة بفكرة معينة"، وليس عن "الحقيقة المطلقة" التي لا خلاف عليها من الكل، وهم بهذا المعنى يكونون قد أقروا ـ بدون وعي ـ بـ"نسبية القضية الدينية" وليس بإطلاقها.
لقد تأخرت البشرية في الاعتقاد في دين واحد بدلًا من الاعتقاد في أديان مختلفة، وإذا أردنا تقصي هذا الأمر وتتبعه تاريخيًّا وعلميًّا، فإنه باستثناء التسلسل التاريخي لنزول الأديان وعبث الإنسان بنصوصها لعدم نضوجه الفكري بعد، فإن من أهم الأمور التي أخرت اعتقاد البشرية ـ حتى الآن ـ في وجود دين واحد بدلًا من الاعتقاد في أديان متعددة هو عدم وضوح معنى الدين، وعدم وضوح معنى الحقيقة المطلقة.
فيكاد يكون هناك اتفاق ضمني ومعلن بين معظم أتباع الديانات المختلفة، بأنه ليس هناك ما يمكن أن يسمى بك"الحقيقة المطلقة"؛ وكل ما يمكن أن يوجد ـ في أحسن الأحوال ـ هو "حقيقة نسبية"، وهي رؤية يتبناها ـ على وجه الخصوص ـ علماء اللاهوت في الديانة المسيحية، وتأكيدًا على هذا المعنى يقول الدكتور القس: "إكرام لمعي"، رئيس المجمع الأعلى للكنيسة الإنجيلية بمصر ومدير كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة سابقًا: (ينبغي إعادة تفسير مفهوم الحق،. فكل جماعة تعتبر أنها تمتلك الحق بشكل كامل، لذلك فأي جماعة أخرى لا تمتلكه كاملًا، لكن الحقيقة أننا لا نمتلك الحق، ولكن هو الذي يمتلكنا، ونحن نعبر عن ما نفهمه من الحق.
فالحق المطلق أكبر وأعظم من كل المفاهيم البشرية والتفسيرات الإنسانية، وإن كان كل دين كامل فعليه ألا يسلب حق الآخر في أن يردد نفس المفهوم، فكل جماعة تؤمن أنها تمتلك الحق، لكن هذا لا يدعونا أن نفرض ما نملكه على الآخرين، لكن نقبل الآخر على المستوى الإنساني) [تجديد الخطاب الديني... وأسئلته وإجاباته، جريدة الأهرام في عددها رقم (95،42)، الصادر في: 8 مارس 2002م].
أما الأنبا "يوحنا قلته" المعاون البطريركي للأقباط الكاثوليك، فهو ينفي قدرة الإنسان على امتلاك "الحق المطلق"؛ حيث يقول: (ليس في إمكان أي إنسان أن يمتلك الحق المطلق)، وبذلك هو يعني (غياب الحق المطلق من القضية الدينية) [الحوار الديني ... أسمى حوار، جريدة عقيدتي، العدد (433)، الصادر في 13 مارس 2001م].
وكما نرى فإن كلا من الرؤيتين قد ألقت بتعريف الحق المطلق أو "الحقيقة المطلقة" على عاتق الفكر الإنساني، وليس على عاتق الفكر الإلهي صاحب هذا الحق.
تمامًا كما سبق وأن ألقت المسيحية بتعريف الدين على عاتق الفكر الإنساني، وليس على الفكر الإلهي صاحب الدين؛ ولهذا فشل الإنسان في صياغة تعريف واحد ومحدد للدين.
إننا جميعًا نتفق على أن: "الدين مصدره الله عز وجل، وليس مصدره الإنسان"؛ وبهذا المعنى تصبح "الحقيقة المطلقة" هي ملكية خالصة لله سبحانه وتعالى الخالق المطلق لهذا الوجود وليس ملكية للإنسان، وبدهي أن هذه "الحقيقة المطلقة" يعلنها المولى عز وجل لعباده على لسان أنبيائه ورسله في الدين ليأخذوا بها.
وبناء على هذا فإن نفي وجود الحقيقة المطلقة إنما يعني أحد الاحتمالات الثلاثة التالية أو بعضها أو كلها:
أولًا: نفي لقدرة الله عز وجل على ملكية الحقيقة المطلقة.
ثانيًا: نفي لقدرة الله عز وجل ـ في حالة ملكيته لها ـ على توصيلها لعباده.
ثالثًا: نفي لقدرة الله عز وجل ـ في حالة ملكها وقام بإعلانها ولم يفهمها الإنسان ـ على خلق إنسان لا يستطيع معنى الحقيقة المطلقة.
وكما نرى، فإن جميع هذه الاحتمالات السالفة تؤدي إلى معنى نقص القدرة، أو نقص في الكمالات الإلهية، وهو فكر مرفوض تمامًا؛ فحاشًا لله أن يتصف بمثل هذا النقص في كمالاته الإلهية: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27].
ولا يصح القول بأن الله سبحانه وتعالى لا يريد أن يعلن "الحقيقة المطلقة" للإنسان؛ وإلا انتفت الغايات من خلق الإنسان ومن وجود الدين؛ تحقيقًا لقوله تعالى مخاطبًا البشرية: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:38-39].
فإما يأتينكم مني هدى: المراد هنا أن اللَّه عز وجل سيبعث الأنبياء والرسل ومعهم كتاب الهداية، أي منهاج الدين، وهكذا لا يمكن أن ننكر أو نتنكر لوجود "الحقيقة المطلقة" وإمكانية امتلاكنا لها؛ لارتباط معناها وملكيتها بالفكر الإلهي وقدرته على توصيلها لمخلوقه الإنسان.
ومن منظور الدين الإسلامي فإن الوصول إلى الحقيقة المطلقة هو غاية الغايات من خلق الإنسان، وهو ما يقابل: "الإيمان العاقل"، أي: الإيمان المبني على العقل وليس "إيمان الحيوان" الذي يقول به فلاسفة الغرب أمثال جورج سنتيانا.
والإيمان العاقل هو الإيمان الذي يدعمه المنطق العلمي والرياضي السائد في النظريات العلمية والرياضية المعاصرة.
ومن هذا المنظور أيضًا قام الدين الإسلامي بنقل القضية الدينية بكاملها من الحيز النسبي إلى المطلق، ومن حيز الاعتقاد إلى حيز البرهان، أي إلى حيز القضايا العلمية الراسخة، كما بتوحيد النظرة إلى الدين باعتباره دينًا واحدًا صدر عن خالق مطلق واحد؛ كما جاء في قوله تعالى في قرآنه المجيد: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13].
وبعد هذا الاستعراض، فإننا نستطيع أن نعرف "الحقيقة المطلقة" بأنها تحتوي ـ في أقل معاني لها ـ على البنود التالية:
أولًا: وجود الخالق المطلق سبحانه وتعالى للوجود المدرك وغير المدرك، وهو صاحب الكمالات المطلقة "الأسماء الحسنى"، ويمكن البرهنة العلمية على ذلك.
ثانيًا: وجود الدين المطلق أو الدين الحق، وهو البلاغ الصادر عن الخالق المطلق لهذا الوجود "المدرك وغيره المدرك"، لتعريف مخلوقاته به "كمالات وفعل"، وبالغايات من خلقهم "الإيمان العاقل، أو الإيمان المبني على العقل، كما وأن مكارم الأخلاق، الحق، العدل، الخير، ... إلى آخره" حتى يمكنهم الفوز بالسعادة الأبدية المنشودة، ويمكن البرهنة العلمية على ذلك.
ثالثًا: الدين ليس "قضية وهمية من صنع خيال الإنسان"، كما وإنه ليس "قضية اعتقادية" قد يؤمن بها الإنسان أو لا يؤمن بها، أي لا برهان لها؛ بل الدين هو: "قضية علمية كلية" لها براهينها الراسخة مثل البراهين اللازمة لأي قضية علمية كبرى أخرى.
رابعًا: وجود الأنبياء والرسل وكتبهم المنزلة وأنهم الوسطاء بين البشرية وبين الله عز وجل، لتوجيهها إلى طريق السعادة الأبدية المنشودة، ويمكن البرهنة العلمية على ذلك، وهم القدوة البشرية للبشرية في السلوك ومكارم الأخلاق، بمفهوم أعم وأشمل من فكر أبطال الشعوب.
خامسًا: كفالة حرية الإنسان في اختيار العقيدة، ولكن عليه تبعات هذا الاختيار.
سادسًا: وجود الجنة، ووجود النار، ويمكن البرهنة العلمية على ذلك.
سابعًا: وجود العوالم الأخرى (عالم الجن، عالم الملائكة، عالم الروح)، والحياة الآخرة والبعث والحساب، والجزاء من جنس العمل إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، ويمكن البرهنة العلمية على ذلك.
ثامنًا: الإنسان ليس المخلوق الوحيد لله في هذا الكون المادي، بل يوجد مخلوقات أخرى وعوالم وأكوان أخرى غيرنا، ويمكن البرهنة العلمية على ذلك.
تاسعًا: بيان طبيعة خلق الإنسان بمسئولياته المختلفة، النفس والروح والجسد "الغطاء"، والأدوار التي يلعبها كل مستوى.
فهذا ما يمكن أن تعبر عنه "الحقيقة المطلقة"، في "الدين الحق" وفي أقل الكلمات، والآن إذا قال المولى عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء:174].
فلابد وأن يحوي القرآن المجيد كل البراهين العلمية الراسخة لكل ما سبق ذكره عن الحقيقة المطلقة.
وهنا يصبح الدين المسئولية الإلهية تجاه الإنسان، أي مسئولية الخالق تجاه المخلوق وتقديم البراهين الدالة ـ بمنطق رياضي مفهوم ـ على ضرورة تحقيق الإنسان للغايات من خلقه.
فلابد من التنبيه إلى أن المنطق الإنساني هو عين المنطق الإلهي الذي أمدنا به أو ركبه فينا المولى عز وجل، كما جاء هذا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الإنفطار:6-8].
لقد تأخرت البشرية في الاعتقاد في دين واحد بدلًا من الاعتقاد في أديان مختلفة، وإذا أردنا تقصي هذا الأمر وتتبعه تاريخيًّا وعلميًّا، فإنه باستثناء التسلسل التاريخي لنزول الأديان وعبث الإنسان بنصوصها لعدم نضوجه الفكري بعد، فإن من أهم الأمور التي أخرت اعتقاد البشرية ـ حتى الآن ـ في وجود دين واحد بدلًا من الاعتقاد في أديان متعددة هو عدم وضوح معنى الدين، وعدم وضوح معنى الحقيقة المطلقة.
فيكاد يكون هناك اتفاق ضمني ومعلن بين معظم أتباع الديانات المختلفة، بأنه ليس هناك ما يمكن أن يسمى بك"الحقيقة المطلقة"؛ وكل ما يمكن أن يوجد ـ في أحسن الأحوال ـ هو "حقيقة نسبية"، وهي رؤية يتبناها ـ على وجه الخصوص ـ علماء اللاهوت في الديانة المسيحية، وتأكيدًا على هذا المعنى يقول الدكتور القس: "إكرام لمعي"، رئيس المجمع الأعلى للكنيسة الإنجيلية بمصر ومدير كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة سابقًا: (ينبغي إعادة تفسير مفهوم الحق،. فكل جماعة تعتبر أنها تمتلك الحق بشكل كامل، لذلك فأي جماعة أخرى لا تمتلكه كاملًا، لكن الحقيقة أننا لا نمتلك الحق، ولكن هو الذي يمتلكنا، ونحن نعبر عن ما نفهمه من الحق.
فالحق المطلق أكبر وأعظم من كل المفاهيم البشرية والتفسيرات الإنسانية، وإن كان كل دين كامل فعليه ألا يسلب حق الآخر في أن يردد نفس المفهوم، فكل جماعة تؤمن أنها تمتلك الحق، لكن هذا لا يدعونا أن نفرض ما نملكه على الآخرين، لكن نقبل الآخر على المستوى الإنساني) [تجديد الخطاب الديني... وأسئلته وإجاباته، جريدة الأهرام في عددها رقم (95،42)، الصادر في: 8 مارس 2002م].
أما الأنبا "يوحنا قلته" المعاون البطريركي للأقباط الكاثوليك، فهو ينفي قدرة الإنسان على امتلاك "الحق المطلق"؛ حيث يقول: (ليس في إمكان أي إنسان أن يمتلك الحق المطلق)، وبذلك هو يعني (غياب الحق المطلق من القضية الدينية) [الحوار الديني ... أسمى حوار، جريدة عقيدتي، العدد (433)، الصادر في 13 مارس 2001م].
وكما نرى فإن كلا من الرؤيتين قد ألقت بتعريف الحق المطلق أو "الحقيقة المطلقة" على عاتق الفكر الإنساني، وليس على عاتق الفكر الإلهي صاحب هذا الحق.
تمامًا كما سبق وأن ألقت المسيحية بتعريف الدين على عاتق الفكر الإنساني، وليس على الفكر الإلهي صاحب الدين؛ ولهذا فشل الإنسان في صياغة تعريف واحد ومحدد للدين.
إننا جميعًا نتفق على أن: "الدين مصدره الله عز وجل، وليس مصدره الإنسان"؛ وبهذا المعنى تصبح "الحقيقة المطلقة" هي ملكية خالصة لله سبحانه وتعالى الخالق المطلق لهذا الوجود وليس ملكية للإنسان، وبدهي أن هذه "الحقيقة المطلقة" يعلنها المولى عز وجل لعباده على لسان أنبيائه ورسله في الدين ليأخذوا بها.
وبناء على هذا فإن نفي وجود الحقيقة المطلقة إنما يعني أحد الاحتمالات الثلاثة التالية أو بعضها أو كلها:
أولًا: نفي لقدرة الله عز وجل على ملكية الحقيقة المطلقة.
ثانيًا: نفي لقدرة الله عز وجل ـ في حالة ملكيته لها ـ على توصيلها لعباده.
ثالثًا: نفي لقدرة الله عز وجل ـ في حالة ملكها وقام بإعلانها ولم يفهمها الإنسان ـ على خلق إنسان لا يستطيع معنى الحقيقة المطلقة.
وكما نرى، فإن جميع هذه الاحتمالات السالفة تؤدي إلى معنى نقص القدرة، أو نقص في الكمالات الإلهية، وهو فكر مرفوض تمامًا؛ فحاشًا لله أن يتصف بمثل هذا النقص في كمالاته الإلهية: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27].
ولا يصح القول بأن الله سبحانه وتعالى لا يريد أن يعلن "الحقيقة المطلقة" للإنسان؛ وإلا انتفت الغايات من خلق الإنسان ومن وجود الدين؛ تحقيقًا لقوله تعالى مخاطبًا البشرية: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:38-39].
فإما يأتينكم مني هدى: المراد هنا أن اللَّه عز وجل سيبعث الأنبياء والرسل ومعهم كتاب الهداية، أي منهاج الدين، وهكذا لا يمكن أن ننكر أو نتنكر لوجود "الحقيقة المطلقة" وإمكانية امتلاكنا لها؛ لارتباط معناها وملكيتها بالفكر الإلهي وقدرته على توصيلها لمخلوقه الإنسان.
ومن منظور الدين الإسلامي فإن الوصول إلى الحقيقة المطلقة هو غاية الغايات من خلق الإنسان، وهو ما يقابل: "الإيمان العاقل"، أي: الإيمان المبني على العقل وليس "إيمان الحيوان" الذي يقول به فلاسفة الغرب أمثال جورج سنتيانا.
والإيمان العاقل هو الإيمان الذي يدعمه المنطق العلمي والرياضي السائد في النظريات العلمية والرياضية المعاصرة.
ومن هذا المنظور أيضًا قام الدين الإسلامي بنقل القضية الدينية بكاملها من الحيز النسبي إلى المطلق، ومن حيز الاعتقاد إلى حيز البرهان، أي إلى حيز القضايا العلمية الراسخة، كما بتوحيد النظرة إلى الدين باعتباره دينًا واحدًا صدر عن خالق مطلق واحد؛ كما جاء في قوله تعالى في قرآنه المجيد: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13].
وبعد هذا الاستعراض، فإننا نستطيع أن نعرف "الحقيقة المطلقة" بأنها تحتوي ـ في أقل معاني لها ـ على البنود التالية:
أولًا: وجود الخالق المطلق سبحانه وتعالى للوجود المدرك وغير المدرك، وهو صاحب الكمالات المطلقة "الأسماء الحسنى"، ويمكن البرهنة العلمية على ذلك.
ثانيًا: وجود الدين المطلق أو الدين الحق، وهو البلاغ الصادر عن الخالق المطلق لهذا الوجود "المدرك وغيره المدرك"، لتعريف مخلوقاته به "كمالات وفعل"، وبالغايات من خلقهم "الإيمان العاقل، أو الإيمان المبني على العقل، كما وأن مكارم الأخلاق، الحق، العدل، الخير، ... إلى آخره" حتى يمكنهم الفوز بالسعادة الأبدية المنشودة، ويمكن البرهنة العلمية على ذلك.
ثالثًا: الدين ليس "قضية وهمية من صنع خيال الإنسان"، كما وإنه ليس "قضية اعتقادية" قد يؤمن بها الإنسان أو لا يؤمن بها، أي لا برهان لها؛ بل الدين هو: "قضية علمية كلية" لها براهينها الراسخة مثل البراهين اللازمة لأي قضية علمية كبرى أخرى.
رابعًا: وجود الأنبياء والرسل وكتبهم المنزلة وأنهم الوسطاء بين البشرية وبين الله عز وجل، لتوجيهها إلى طريق السعادة الأبدية المنشودة، ويمكن البرهنة العلمية على ذلك، وهم القدوة البشرية للبشرية في السلوك ومكارم الأخلاق، بمفهوم أعم وأشمل من فكر أبطال الشعوب.
خامسًا: كفالة حرية الإنسان في اختيار العقيدة، ولكن عليه تبعات هذا الاختيار.
سادسًا: وجود الجنة، ووجود النار، ويمكن البرهنة العلمية على ذلك.
سابعًا: وجود العوالم الأخرى (عالم الجن، عالم الملائكة، عالم الروح)، والحياة الآخرة والبعث والحساب، والجزاء من جنس العمل إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، ويمكن البرهنة العلمية على ذلك.
ثامنًا: الإنسان ليس المخلوق الوحيد لله في هذا الكون المادي، بل يوجد مخلوقات أخرى وعوالم وأكوان أخرى غيرنا، ويمكن البرهنة العلمية على ذلك.
تاسعًا: بيان طبيعة خلق الإنسان بمسئولياته المختلفة، النفس والروح والجسد "الغطاء"، والأدوار التي يلعبها كل مستوى.
فهذا ما يمكن أن تعبر عنه "الحقيقة المطلقة"، في "الدين الحق" وفي أقل الكلمات، والآن إذا قال المولى عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء:174].
فلابد وأن يحوي القرآن المجيد كل البراهين العلمية الراسخة لكل ما سبق ذكره عن الحقيقة المطلقة.
وهنا يصبح الدين المسئولية الإلهية تجاه الإنسان، أي مسئولية الخالق تجاه المخلوق وتقديم البراهين الدالة ـ بمنطق رياضي مفهوم ـ على ضرورة تحقيق الإنسان للغايات من خلقه.
فلابد من التنبيه إلى أن المنطق الإنساني هو عين المنطق الإلهي الذي أمدنا به أو ركبه فينا المولى عز وجل، كما جاء هذا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الإنفطار:6-8].